strong>غسّان سعود
كان عدد شبان جمعية «نحو المواطنية» قليلاً أمس حين اجتمعوا بالقرب من ساحة الشهداء بعد جولة لثلاثة أيام في مختلف المناطق اللبنانية. تُجمَع أحاديثهم الكثيرة برواية واحدة: «يتحدث كثيرون عن العدوان الاسرائيلي الأخير، يتناقشون، يتجادلون، يختلفون في التقييم، يعددون الجسور والمنازل والسيارات، والضحايا. وينتهي كلامهم عن العدوان.
هنا تبدأ قصة الشهداء، الشهداء الأرقام، الذين كدّستهم الغارات الإسرائيلية بعضهم فوق بعض، حتى ظن البعض أنهم بلا أسماء، مجرد أرقام، هويتهم انتماؤهم الغريب إلى إيمان بدور خارج عن المألوف. شهداء لم يرَ البعض فيهم سوى أرقام تحصى، تتكرر، تزيد ولا تزيد. شهداء لم يسأل أحد عن صفاتهم وعن ملامحهم وعن أشكالهم».
هكذا خرجت مجموعة من الشباب المنتمين إلى جمعية «نحو المواطنية» للبحث عن وجوه هؤلاء، وجمعها لإعادة رسم المشهد من جديد. توجّه شباب الحملة التي سميت «للأرقام وجوه.. معاً نعيد لهم وجوههم...» إلى البقاع والجنوب بعدما وثقوا صور ضحايا العدوان في جبل لبنان والشمال أيضاً. وعادوا بصور شهداء العدوان الاسرائيلي الأخير، وروايات كثيرة، إحداها من بلدة الجمالية في البقاع، حيث تروي إحدى ناشطات الجمعية سحر فرنجية أن مختار البلدة أخبر رواية خاصة عن الشجرة المقابلة لمنزله، حيث قضى سبعة من أفراد عائلته كانوا يختبئون بين جذوعها بعدما دمرت الغارات الاسرائيلية كل ما قد يحمي رؤوسهم. ولا تنجح فرنجية في حبس دمعتها عند الكلام على ذلك الرجل الذي يرى أمامه، كلما فتح عينيه صباحاً، الشجرة التي ما زال خيال دم أولاده يرتسم فوق جذوعها.
أما زميلتها ندى فتروي عن أشخاص التقتهم في بعلبك والجنوب، فقدوا أعزّاءهم، وبعضهم استشهد بعدما ظنّ الجميع أن الاسرائيلي قد رحل، فتفجرت قنابله العنقودية حتى في وجوه الأطفال الصغار وأساتذتهم في المدارس. تتدخل سحر من جديد، وتقول إن أسئلة المشاركين لأهالي الشهداء تركزت على ما يشعرون به. وتلفت إلى غرابة شجاعتهم الكلامية ورغبتهم في الإفصاح عن ذكرياتهم. وتؤكد أن ليس ثمة أخبار «مهضومة» في البلدات التي استهدفت، وإنما أسى وحزن يغلفان البطولة، ويجعلان من الكلام السياسي في بيروت، مجرد سخرية مؤسفة.
التقوا أشخاصاً كانوا شهوداً بالعين القريبة على مجزرة قانا. صوّروا كل ما سمعوه، ووثقوا الكلام والصور، واعدين بإنتاج فيلم وثائقي. تستعيد ندى مبادرة الكلام، تلفت إلى صعوبة ترك الأهالي وهم يتكلمون، وإلى الانجذاب الغريب تجاههم. تجاه أشخاص فقدوا أغلى ما لديهم، والداً أو والدة أو أخاً أو صديقاً، وما زالوا يحاولون الابتسامة والانطلاق من جديد. وتلفت إلى بعض الذين وجدوا أقرباءهم بعد ساعات كثيرة أو أيام أو أسابيع، وكانت جثثهم قد شوّهت. وتنقل ما سمعته من محاولات الاختباء والأساليب التي اعتمدها الأهالي ليحافظوا على كرامة أرضهم ويبقوا فيها.
يعرض ناشطو «نحو المواطنية» صور أقرباء الذين التقوهم، يظن المستمع أن الكلام انتهى، يخرج صوت أحد الناشطين مؤكداً ضرورة تركيز مؤسسات الدولة وجمعيات المجتمع الأهلي على ما هو أكثر من المساعدة المادية، على قليل من الدعم النفسي الذي يحتاجون إليه بشدّة.
يجمع الناشطون أغراضهم، ويغادرون الساحة. يُعلق أحد الشباب بالقول «المهم ألا تُعلق صور شهداء العدوان الاسرائيلي على الطرقات، فعندها لا تعود الرؤية ممكنة، نحن مع عشرة شهداء (بعضهم شهداء أحياء) ولا نجد مساحة من الهواء الطلق».