ليلى نقولا الرحباني
لبنان في المرتبة 63 في مؤشر الفساد، بتقدم 20 نقطة عن السنة الماضية حيث احتل المرتبة 83. هذا ما أعلنته منظمة «الشفافية الدولية». ما هو الفساد؟ وما مدى ملاءمة التشريع اللبناني لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي أُقرت عام 2003 والتي ينوي لبنان الانضمام إليها؟

لا إجماع على تعريف شامل للفساد يطاول كل أبعاده، ويحظى بموافقة كافة الباحثين في هذا المجال. لذلك تجنبت «اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد» تبنّي تعريف شامل للفساد، فاكتفت بالإشارة الى الأعمال الجرمية التي ترى السلوك فاسداً في الوقت الراهن، تاركة للدول الاعضاء إمكان معالجة أشكال شتى من الفساد قد تنشأ مستقبلاً، والتي يمكن أن تختلف بين مجتمع وآخر. وقد عبّرت الاتفاقية عن التيار المتصاعد في عالم اليوم، والذي يدين الفساد من منطلق براغماتي تنموي لا من منطلق فلسفي أو أخلاقي. فقد أثبتت الدراسات وجود علاقة قوية بين انتشار الفساد وتوسعه من جهة، وضعف التنمية الاقتصادية وجذب الرساميل الاجنبية من جهة أخرى.
ويبدو جلياً من خلال مقدمة الاتفاقية، أن هناك اقتناعاً متزايداً على المستوى الدولي بأن الفساد لم يعد مسألة داخلية محصورة ضمن حدود الدول التي تعانيها، بل علة تخترق تلك الحدود وتؤثر في العلاقات الدولية، وهو مما يجعل التعاون بين الدول للسيطرة على الفساد ومنع انتشاره ضرورة ملحة. أما السؤال الذي يطرح اليوم، في ظل توجه السلطات اللبنانية الى التوقيع على اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد، فهو مدى ملاءمة بنود هذه الاتفاقية الدولية المنوي إقرارها مع التشريع اللبناني؟
على الرغم من كثرة التشريعات اللبنانية التي تستهدف مكافحة الفساد، فإن أفضل ما يقال فيها أن مردودها العملي متواضع جداً، مما أدى الى تردّي واقع الادارة العامة وانتشار الفساد في مرافقها كلها. وانتقلت العدوى الى مختلف القطاعات، الى درجة بات معها الفساد جزءاً من نسيج وثقافة المجتمع اللبناني، وتحول الى نوع من «الشطارة».
ان معظم الجرائم الموصوفة في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد تجد ما يلائمها في القوانين اللبنانية (انظر الجدول). لكن، وبالرغم من أن جريمة الاستيلاء على الاموال والممتلكات في القطاع الخاص تطابق الى حد بعيد جريمة السرقة أو إساءة الأمانة المعاقبتين في القانون اللبناني، فلا شيء يمنع المشترع من ان يخصص هذا الجرم بنص خاص كما فعلت الاتفاقية في مادتها 22. ولا سيما أن القطاع الخاص آخذ بالتوسع يوماً بعد يوم، بما يستتبعه ذلك من تأثير على حياة الناس اليومية وسلامة الاقتصاد، خاصة في ظل النظام الاقتصادي الحر الذي يعتمده لبنان، وما يُخطط له من توجه نحو الخصخصة.
وفي ظل العولمة الاقتصادية والمالية، وتحول الشركات من وطنية الى عبر وطنية، كثيراً ما نجد أن مرتكبي جرائم الفساد يستفيدون من ثغر تشريعية توفر لهم امكان التملص من الملاحقة القضائية، وذلك إما لنقص في قواعد الولاية القضائية او لتوزع أركان جرائم الفساد المنظم بين أكثر من دولة. تكرّس الاتفاقية نظام تكامل معايير الولاية القضائية في مادتها 42. اما بالنسبة إلى القانون اللبناني فنجد أنه تفوق على الاتفاقية في هذا المضمار، اذ إنه يتبنى معايير «الصلاحية الاقليمية» في مادته 15 و «الشخصية» في المادة 20ــ21 و«الذاتية» في المادة 19 بالإضافة الى معيار «الصلاحية الشاملة» في المادة 23.
لكن هناك بعض الامور المهمة التي يخلو منها القانون اللبناني. وهي المواد التي تختص بحماية الشهود والضحايا والمبلغين التي نصت عليها الاتفاقية في مادتيها 32 و33. فالنقص في هذه الحماية يحرم السلطات من دور الشهود الاساسي جداً والمهم في ملاحقة جرائم الفساد والكشف عن تفاصيلها السرية والتعرف الى مرتكبيها.
ومن أهم العقبات التي تعترض مكافحة الفساد في لبنان مسألة «الحصانة». فنجد مثلاً أن تحريك دعوى الحق العام على الموظف، في ما خص جرائمه الوظيفية، مرتبط بموافقة الادارة التي ينتمي اليها الموظف من جهة، وبرغبة النيابة العامة في تحريك الدعوى عليه من جهة أخرى (المادة 61 من المرسوم الاشتراعي 112/1959). لذلك نرى أن معظم جرائم الفساد التي تقع في الادارة العامة في لبنان يصعب كشفها ومعاقبة مرتكبيها. فالذين يقومون بها، سواء كانوا من الموظفين الذين يستفيدون من المرسوم الاشتراعي 112/ 1959 أو الاجراء أو سواهم، يملكون من «الحصانات السياسية والادارية» ما يكفي لجعل قدرة السلطة القضائية على ملاحقتهم صعبة ومعقدة، مما يحول في كثير من الأحيان دون الحصول على الأدلة ويبطئ عمليات التحقيق. وهذا ما يفسح المجال لإخفاء آثار الجريمة. وقد أوجدت الاتفاقية حلاً لهذه الحصانات، فنصّت في المادة 30 على «إبقاء توازن مناسب بين أي حصانات أو امتيازات قضائية ممنوحة للموظفين العموميين وإمكان القيام عند الضرورة بعمليات تحقيق وملاحقة ومقاضاة فعالة في الافعال المحرمة وفقاً لهذه الاتفاقية».
من جهة ثانية، إن حصر امكان تحريك دعاوى الفساد بالنيابة العامة ومنع تحريك الدعوى بواسطة الادعاء الشخصي، قد يؤدي الى إسقاط هذه الجرائم بمرور الزمن، وخاصة انها تعدّ «جنحاً» بموجب القانون اللبناني. لذلك، ومن أجل مكافحة حقيقية للفساد المستشري، لا بد من تعديل بعض مواد التشريع اللبناني بما يتلاءم مع المادة (29) من الاتفاقية والتي تنص على ما يأتي: «تحدد كل دولة طرف في اطار قانونها الداخلي، عند الاقتضاء، فترة تقادم طويلة تبدأ فيها الاجراءات القضائية بشأن أي فعل مجرّم وفقاً لهذه الاتفاقية، وتحدد فترة تقادم أطول أو تعلّق العمل بالتقادم في حال افلات الجاني المزعوم من يد العدالة».
إذاً، يتبين من خلال المراجعات أن لبنان لا يعاني نقصاً في قوانينه، بل على العكس، هناك بعض المواد التي تتميز بشمولية تفوق التشريعات العالمية. لكن يبدو في بعض الأحيان، أن الهدف من الربط السببي بين النصوص والممارسة ومن السجالات حول اصلاح القوانين وتحديثها، هو توفير صك براءة للسياسيين الذين حكموا على مدى عقود، وإبعاد المراقبة والمساءلة والمحاسبة عنهم.
إن بناء دولة الحق والعدالة والشفافية في لبنان، لا يقوم على النصوص التشريعية وحدها، بالرغم من أهميتها. فليست دولة الحق مجرد قوانين على الرفوف وتشريعات تتميز بدقة تناسقها وصياغتها ومنطق مضمونها، بل هي تبدأ باستقلالية القضاء، أي ألا تتحكّم السلطة التنفيذية بالتعيينات والترقيات والرواتب، وفصل السلطات الثلاث فصلاً تاماً وشاملاً بحيث تراقب كل واحدة الأخرى، والأهم تطبيق القانون بروحيته وإحــقاق الــعدالة وتطبيق المساواة أمام القـــانون بل وفي القانون.