نقولا ناصيف
يقرع «حزب الله» وحلفاؤه طبول الحرب وكأنه ذاهب إليها غداً، فيما هو لم يوصد بعد الأبواب أمام اتفاق ــ بشروطه ــ توافق عليه الغالبية الحاكمة استناداً إلى أحد بندي العرض الذي قدّمه الأحد الفائت (19 تشرين الثاني) الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله. لم يتخلَّ الحزب عن قراره النزول إلى الشارع، وهو لا يتوقع أن توافق قوى 14 آذار على أي من شقّي عرضه، وكلاهما يفقدانها السلطة التي تمسك بها. إذ في ضوء تتبّع اتصالات الساعات المنصرمة وتصاعد نبرة الشروط المتصلّبة المتبادلة، بات واضحاً لدى الغالبية على الأقل أن السلطة التي تمسك بها لم تعد هدفاً في ذاته، بل أضحت أداة للدفاع عن السلطة القائمة من خلال السلطة نفسها، ومن دونها تخسر كلياً سيطرتها على مقوّمات وجودها كغالبية ومبرّرات ما حصلت عليه منذ 14 آذار 2005، وهو حماية سلسلة الخيارات الكبيرة التي تبنّتها بدءاً بالقرار 1559 انتهاء بالقرار 1701، مروراً بتصفية النفوذ السوري في لبنان والمحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والإمساك بالقرار الحكومي اللبناني.
على أن «حزب الله» وحلفاءه يُدرِجون تحرّكهم في نطاق معطيات، منها:
1 ـــــــ استمرار انقطاع الاتصالات مباشرة أو بالواسطة بين «حزب الله» والغالبية، وبينها وبين الرئيس نبيه بري. وعلى وفرة النشاطات والجولات المكوكية في اليومين الماضيين للسفيرين السعودي عبد العزيز خوجة والمصري حسين ضرار، لم يتعدَّ مسعاهما حتى الآن التهدئة وتخفيف وطأة التشنّج، من غير أن يحمل أي منهما مشروع حل أو أفكاراً لتسوية محتملة، وهو الأمر الذي يبقي المشكلة كما يبقي الانفجار في أيدي طرفي النزاع.
2 ــــــ رغم أن الحزب يقرع طبول اللجوء إلى الشارع، فإن خياره هذا هو واحد من بضعة أهداف متدرّجة ترمي إلى تصعيد الضغط على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لإرغامها على الاستقالة. من الخيارات تلك، العصيان المدني والانقطاع عن العمل في الإدارات الرسمية. ولا يدخل في هذا الحساب استقالة نواب المعارضة («حزب الله» وحركة «أمل» والتيار الوطني الحرّ) لعدم جدواها. استقالة 55 نائباً لا تحلّ المجلس دستورياً ما لم يبلغ عدد المستقيلين النصف زائداً واحداً، ولا تقلب التوازن الداخلي رأساً على عقب، نظراً إلى استمرار قبض قوى 14 آذار على زمام السلطة وإداراتها، وقدرتها على الدعوة إلى انتخابات فرعية سواء أجريت أو لم تُجرَ. لكن خطوة كهذه تضع المجلس برمته تحت سيطرة الغالبية، كما تضع موقع رئيس المجلس في مهب ريحها أيضاً استقال أو لم يستقل.
3 ـــــ يعتقد «حزب الله» وحلفاؤه المعارضون أن استقالة الوزراء الشيعة الخمسة لم تستنفد بعد تأثيرها والإحراج الذي أوقع مجلس الوزراء فيه، وأن في الإمكان تعزيز الجدل الدستوري من حولها لتكريس واقع لادستورية الحكومة ولاشرعيتها. رئيس الجمهورية لن يحضر مجلس الوزراء ليترأسه اعتقاداً منه بأن الحكومة فقدت شرعيتها الدستورية، ولن يوافق على تحديد جدول أعمال أي من الجلسات التي سيدعو إليها رئيس الحكومة، ولن يوقع قرارات المجلس أو يصدر مراسيم إحالتها على مجلس النواب. وهي صلاحيات قصرها الدستور عليه. وأياً يكن الموقف السياسي للرئيس إميل لحود من حكومة السنيورة، ليس في وسع الأخير إلا احترام الآلية الدستورية المقيّدة في علاقة رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء وعلاقته برئيس مجلس الوزراء، والعكس صحيح، ولا سيما في إطار ما ينظّم علاقة الرئيسين في الوقت الحاضر. فالمادة 53 تخوّل رئيس الجمهورية وحده إحالة مشاريع القوانين التي تُرفع إليه من مجلس الوزراء على مجلس النواب، وتوقيع مرسوم قبول استقالة الوزراء. والمادة 56 تخوّله وحده إصدار القوانين التي تمت الموافقة النهائية عليها بعد إحالتها على الحكومة وطلب نشرها، وهو وحده أيضاً يصدر المراسيم ويطلب نشرها. والمادة 64 توجب إطلاعه سلفاً على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء قبل انعقادها. والمادتان 33 و86 توجبان موافقة رئيس الجمهورية على فتح عقد استثنائي لمجلس النواب.
4 ـــــــ تجد المعارضة حتمية الاستمرار في قرع طبول الشارع وإطلاق المواقف المتشدّدة وعقد الاجتماعات لممارسة مزيد من الضغوط على قوى 14 آذار لحملها على الإذعان لأي من شرطي التسوية أو الاحتكام إلى الشارع. لكن ذلك لم يحل حتى الآن دون البحث المتأني، البعيد عن الأضواء في اجتماعات مغلقة لم تتوصّل بعد إلى الإجابات الشافية عن مشكلة قائمة: ليس ثمة مشكلة تواجهها المعارضة، والتحالف الشيعي خصوصاً، في النزول إلى الشارع في المناطق الإسلامية، ومن غير أن يفضي ذلك إلى اضطرابات أو صدامات أو فوضى. لكن الأمر يصبح أكثر حساسية حيال الشارع المسيحي في المناطق المسيحية التي قد يتحفّظ بعضها ربما أو لا يستجيب استجابة كافية لإقفال طويل أو دائم، أو قد يرفض، نظراً إلى واقع اقتسام الشعبية بين فريقين مسيحيين بينهما في السياسة والتباعد الشخصي والذاكرة الدموية ما صنع الحدّاد.
ولا يكتم مسؤول بارز في المعارضة تأكيده أن نجاح هذه في إرغام حكومة السنيورة على الاستقالة سيقود إلى حكومة انتقالية برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، على غرار حكومته السابقة العام الماضي، تُعدّ لتسوية شاملة.
5 ــــــــ يتوقّع الحزب وحلفاؤه في الساعات المقبلة تصاعد نبرة أقطاب قوى 14 آذار مع إقرار مجلس الأمن مسودة المحكمة الدولية التي تصبح عندئذٍ ورقة ضاغطة على المعارضة. وسيؤول ذلك بالنسبة إلى الرموز الثلاثة الأكثر تصلباً في الغالبية (النائبان وليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع) إلى تكرار رفضهم عرض نصر الله وإقفال أبواب الحل دونه، وهو الأمر الذي يضع المواجهة في الشارع موضع التنفيذ.
في المقابل، ومن غير أن يقلّلوا من أهمية تصويت مجلس الأمن على مسودة المحكمة الدولية، يعتقد الحزب وحلفاؤه أن مسيرة هذه تنتظرها، في ظلّ التشنّج المتبادل، عقبات: عندما ستُطرَح مجدّداً على مجلس الوزراء لإقرار النظام النهائي لعمل المحكمة الدولية، وعندما سيُطلَب من رئيس الجمهورية ــــــ وهو صاحب الاختصاص الحصري ـــــ إحالتها على مجلس النواب، وعندما سيُطلَب أيضاً من رئيس مجلس النواب إحالة المشروع على اللجان النيابية المختصة، ومن ثم على الهيئة العامة لإجازة إبرام وثائق تأليف المحكمة الدولية. أضف إلى ذلك عقبة سياسية ستواجه المشروع هي أنه غير قابل للتعديل في مجلس الوزراء، ولا في مجلس النواب، نظراً إلى وجود طرف ثان مفاوض هو الأمم المتحدة في مشروع المحكمة الدولية، ثم أخيراً توقيع رئيس الجمهورية قانون إجازة الإبرام.
فأي واقع تكون عليه حينذاك آلية دستورية طويلة كهذه في غياب وزراء الشيعة الخمسة عن حكومة السنيورة، وفي حمأة تصاعد وتيرة الطعن في دستورية الحكومة وشرعيتها من مرجعين يجدر عدم تجاهل موقعيهما الدستوري، على الأقل، نظراً إلى كونهما معنيين مباشرة بالآلية هذه، هما رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب؟