جوزف سماحة
هناك ثلاثة لبنانيين يتحمّلون مسؤولية خاصة في الأزمة السياسية التي نعيشها اليوم. ثلاثة مواطنين فقط يمكنهم أن يعطوا وجهة أخرى للأحداث. يبدو العدد قليلاً جداً قياساً بما نسمع ونقرأ عن الاحتمالات الخطيرة والتي قد تزداد خطورة إذا «نزل» مئات الآلاف إلى الشارع. ثلاثة أفراد يحتجزون إرادة نصف اللبنانيين أو، إذا نظرنا إلى الوضع من زاوية أخرى، يمثّلون تطلّعات النصف الآخر من اللبنانيين.
الثلاثة المعنيون ليسوا مواطنين فوق العادة. وليسوا قادة طوائف. وليسوا قادة ميليشيات. على العكس من ذلك ربما. إنهم ثلاثة مواطنين فحسب وربما كانوا يفتقدون قاعدة طائفية ولم يسبق لهم أن تعاطوا بغير الأعمال المدنيّة مع ميزة لاثنين منهم هي تمتعهما بمخزون ثقافي محترم.
المواطنون هؤلاء موجودون في موقع مفصلي. وهم، بسبب ذلك، يتحمّلون مسؤولية استثنائية عن التطور اللاحق للأحداث. وليس معروفاً لدينا ما إذا كانوا مدركين تماماً للعبء المرميّ عليهم، وما إذا كانوا يراجعون مواقفهم. نسمع من أحدهم أو من الآخر أن ضميره مرتاح وأنه يمارس قناعاته.
المواطنون الثلاثة هم، ببساطة، وزراء. اختيروا إلى حقائبهم لأسباب عديدة بينها ما هو منسوب إليهم من علاقات وولاءات. كان وجودهم، هم شخصياً، أقرب إلى الصدفة لأنه لا حيثيّة خاصة ومستقلة لهم توجب هذا الاختيار. كانوا حاجة، هم أو غيرهم، لأن الحسابات الدقيقة للتوازن ضمن الحكومة تقتضي ذلك. كانوا، على الأرجح، على بيّنة من الأمر ومدركين لخريطة القوى وللمنطق الذي قاد إلى الإتيان بهم. إلا أن الظروف الخاصة، أو الاحتكاك بالسلطة، أو الاطلاع على الصراعات من الداخل، قادت هؤلاء إلى تغيير مواقعهم والانتقال من معسكر إلى آخر. هذا إذا أحسنّا الظن ولم نشأ التطرّق إلى طموحات شخصية لدى واحد أو أكثر. المهم أن الوعي المستجد لديهم أربك الحسابات كلها وأعاد خلط الأوراق وجعل الأزمة الحالية قابلة للاستمرار في شكلها الراهن.
قد يدفع لبنان ثمناً كبيراً للتحوّل الطارئ على ثلاثة من أبنائه. لكن هناك من يقول إن النجاة هي في هذا التحوّل.
***
تحتشد فوق المسرح السياسي اللبناني شخصيات عديدة. وبقدر ما نلاحظ أن المأزق جدي ننتبه إلى أن بعض هذه الشخصيات جديد تماماً على السياسة اللبنانية. إلا أن الأكثر جدية من جدّة الشخصيات هو أن الأزمة الحالية تشهد اقتحاماً لهذا المسرح من قوى شعبية منظّمة لم يسبق لها أن أدّت أدواراً داخلية بهذه الأهمية.
أبرز هذه القوى «حزب الله» و«التيار الوطني الحر». كان «الحزب» في الماضي القريب ممتنعاً عن السياسة وكان «التيار» ممنوعاً من السياسة. إلا أن الخروج العسكري السوري من لبنان أرغم الأول على دخول المعترك وحرّر الثاني ناقلاً إياه من الموقع الاعتراضي إلى موقع اللاعب الأساسي.
لهاتين القوتين ميزة قد تكون نقيصة. الميزة هي محاولة إدخال لغة جديدة إلى السياسة اللبنانية التقليدية، وسلوكيات جديدة، وممارسات جديدة. المناورات أقل. الصلة بين القول والفعل أمتن. العلاقة مع الكوادر الحزبية جدية. الاستدارة من خط إلى آخر أو إلى النقيض صعبة إن لم تكن مستحيلة بلا جهد إقناعي. التحالفات تبحث عن منطق. وحتى «التفاهم» بينهما له حدوده المرسومة، ووسائل نقله إلى القواعد، والاستعداد لتحمّل أعبائه، واختباره في الزمن الصعب...
هذه نسمة جديدة تهبّ على الحياة العامة كما نعرفها. لكن هذه النسمة قد تكون مشكلة في الوقت نفسه. وربما كان التباين بين هذين الوافدين وبين تقاليد سابقة مصدراً لسوء فهمٍ أدى دوراً في تفاقم الأزمة.
***
هذه المرة، كما في كل مرة، يشتد الاحتقان، يتعسكر اللبنانيون، ينقسم المواطنون إلى جبهتين، يتهدّد المصير الوطني، تتصادم البرامج ذات الصياغات المتناقضة لمستقبل البلد، يصبح الاستقرار في خطر، تدخل مصالح الناس الدائرة الحمراء، تصاب الحركة بالشلل... وتتحوّل الهيئات الاقتصادية إلى صوت، إلى مجرد صوت يشكو وينوح، ويتوجّع، ويناشد و... يكتشف ضآلة تأثيره على المسار العام للأحداث وانعدام قدرته على التأثير في وجهتها.
لا علاج في الأفق لهذه المعضلة. «الدائرة السياسية» تحكم «الدائرة الاقتصادية» تماماً، وتنزل بورجوازيتنا العتيدة تحت خط الفقر... السياسي.
***
حكومة بلا وزراء شيعة! الأمر جديد في لبنان. لا نعرف، ولا يعرف أحد، كيف ستجد الأكثرية حلاً. الاستمرار على هذه الحالة مستحيل. حكومة الوحدة الوطنية مرفوضة. عودة الوزراء عن استقالتهم ليست في الوارد. المخرج الوحيد تعيين وزراء بدلاء.
لقد كان العدوان الإسرائيلي مخصصاً، بين أمور أخرى، لإنقاذ الشيعة من ممثليهم. وعند العودة إلى المرحلة التي بدا فيها العدوان ظافراً، نكتشف أن لبنان شهد أكثر من أحمد جلبي واحد. ليس أحمد جلبي بمعنى الاستعداد للتعاون مع الاحتلال لكن بمعنى التبرّع بتقديرات إلى القوى الراعية للعدوان بأن انهيارات سوف تحصل وقيادات جديدة سوف تبزغ. سيكون ممتعاً لو راجع البعض تصريحات صدرت في تلك الفترة وأوحت إلى جورج بوش وكوندوليزا رايس بأن هبّة شعبية ستحصل ضد المقاومة في مناطقها. سيكون ذلك ممتعاً ولو أنه مخجل لأصحاب هذه الآراء. أحدهم، في الولايات المتحدة، زايد على الصحافي الإسرائيلي ناحوم بارنياع. كان الثاني يتحدث عن الفشل الإسرائيلي في الحرب وكان الأول يطمئنه ويدعوه إلى انتظار آثار ذلك في تعزيز انتفاضة شيعية. لو لم يكن اللبناني المشار إليه مارونياً لكان تبرّع، على الأرجح، بالاستيلاء على حقيبة محمد فنيش!