أنطون الخوري حرب
مليء قدر آل الجميّل، لا بل متخم بمحطات الاستشهاد، شأنهم في ذلك شأن الكثير من العائلات التي خاضت غمار السياسة في لبنان. فقلما نجد بيتاً من «البيوتات» اللبنانية لا تتصدر داره صورة شهيد، ولا سيما المارونية منها، خلال حقبة الحرب الداخلية وبعدها

حصد آل الجميل الكمية الكبرى من هذه «الشهادات». واذا كانت السياسة في لبنان المضطرب في بنيته السياسية وتركيبته الطائفية وعلاقاته الإقليمية وثقافته الوطنية، ترسي العنف الدموي آلية للسلوك السياسي، فإن استشهاد الوزير الشاب على يد قتلة محترفين يشكل استمراراً لمسيرة الدماء في نهر لا ينضب. فأي وطن هذا الذي يشرب دماء بنيه ولا يرتوي على مر التاريخ. وهل أصبح الوطن مصّاص دماء؟ أي مقابل هذا لأي ثمن وأي انتماء؟ لقد أتخمنا الشر بمآدبه الطويلة وأطباق الدماء التي يعدّها طبّاخو الموت في مطابخهم السوداء، ويقدمونها لقمة شهية لإلهة المنايا. تتذوّق في كل يوم طعمها الشهي من آهات الحزن و ينابيع الدموع. غريب قدر آل الجميل على درب الرحيل، فهو يلاحقهم في كل زمان، يصطادهم الواحد تلو الآخر وهم يعاندونه بالاستمرار دونما كلل. هم وهو ينتظر بعضهم بعضاً على كل المفارق، وهو يظفر بهم كلما عاندوه. عام 1943 تعرض مؤسس الكتائب بيار الجميل الجد للضرب على رأسه من القوات السنغالية خلال تظاهرات الاستقلال في ذلك الحين، ونجا من الموت. ثم تعرّض لمحاولة اغتيال بعبوة ناسفة زرعت في جدار اوتوستراد الذوق حيث كان يمر بسيارته، وأصيب الجميل الجد بجروح ونجا ثانية من الموت. وفي السيتينيات تعرض الجميل الجد أيضاً لإطلاق نار في بيروت وأصيب في فمه ونجا من الموت أيضاً. ليعود المؤسس ويموت على فراشه في مستشفى مار يوسف في البوشرية عام 1984، وهو المستشفى نفسه الذي نقل اليه بيار البارحة. إضافة الى الجميل الجد، خطف الموت ابن ابن عمه مانويل الجميل خلال حرب السنتين (1975 ــ 1976). وعام 1980 اغتيلت مايا بشير الجميل بعبوة ناسفة كانت تستهدف سيارة والدها عند مفترق الحكمة ـــ مار متر في محلة الأشرفية. ولم يكن بشير يومئذ في السيارة. لكن بشير لم يستطع أن ينجو من الحقيبة الناسفة التي وضعها حبيب الشرتوني في الطابق العلوي لقسم الكتائب في الأشرفية الذي هوى سقفه على بشير ورفاقه في 14 أيلول 1982، ولم يكن قد مضى على انتخاب بشير لرئاسة الجمهورية اكثر من 20 يوماً. بعد بشير كان الموت في انتظار ابن شقيقته أمين أسود الذي سقط في معركة القبّيع ضد الاشتراكيين بعد اشهر على اغتيال خاله. وفي عام 1986 نجا الرئيس أمين من محاولة اغتيال عبر عبوة ناسفة زرعت في طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط، كانت تتحضر لنقله للمشاركة في أحد الاجتماعات العربية. وفشلت المحاولة إثر اكتشاف العبوة على يد ربان الطائرة قبيل إقلاعها من مطار بيروت.
البارحة كان موعد بيار الجميل الحفيد مع القتلة الذين استطاعوا النيل منه في محلة الجديدة، عن 34 ربيعاً، وهو عمر عمه بشير نفسه عند استشهاده. صحيح أن عائلات سياسية أخرى أصابتها الاغتيالات ومحاولات الاغتيالات السياسية، كآل شمعون (الرئيس الراحل كميل شمعون «خمس مرات» ونجله داني مع عائلته) وآل فرنجيه (طوني مع عائلته) وآل جنبلاط وغيرهم، لكن قدر آل الجميل لم يعرف حدّاً تقف عنده اغتيالاتهم، و كأن لعنة الوطن تأكل أبناءه.