نقولا ناصيف
تبدو الساعات المقبلة، وإلى أن تُصدِر المعارضة قرارها بالتظاهر والاعتصام، برسم وقائع ميدانية تنذر بالتشاؤم أكثر مما تبعث على آمال ولو وهمية، منها:
1 ــــــ طرفا المواجهة في الشارع باتا وجهاً لوجه، وقد سُدّت تماماً كل آفاق محتملة لتسوية بين قوتين ترفض إحداهما التنازل للأخرى، ولأن لا مرجعية أقوى منهما معاً ترغمهما على الاتفاق. بذلك يخوض واحدهما معركة الإلغاء السياسي للآخر تكريساً لموقعه في السلطة، ومعركة الانتزاع المتبادل للنصاب القانوني: إصرار المعارضة على الثلث المعطّل في حكومة جديدة هو إلغاء لحكم الغالبية، بمقدار تشبّث هذه بالثلثين المقرّرين في الحكومة الحالية من أجل أن تستمر ممسكة وحدها بقرار السلطة التنفيذية.
2 ـــــــ حدّد الجيش اللبناني لنفسه مهمته في المواجهة الجديدة مع نزول المعارضة إلى الشارع، وهو ما كان قد أبلغه قائده العماد ميشال سليمان إلى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة في الاجتماع الأمني الإثنين الفائت (27 تشرين الثاني). وهو أنه سيحمي المؤسسات الدستورية (رئاسة الجمهورية ومجلس النواب والسرايا الكبيرة) والمباني الحكومية، وفي الوقت نفسه المتظاهرين والمعتصمين وحقهم في التعبير. كذلك أبلغت القيادة إلى أفرقاء النزاع أنها لن تسمح لأي طرف بإحداث شغب وافتعال فوضى، وسيصار إلى اعتقاله وتوقيفه فوراً لدى شرطة الجيش. واللافت في موقف الجيش أن تدخّله لا يشمل فتح الطرق بالقوة إذا أقدم المتظاهرون والمعتصمون على إقفالها بنصب خيم أو التجمّع لتعطيل حركة التنقّل بين المناطق.
3 ـــــ قررت قوى الأمن الداخلي ألا تكون في مواجهة مباشرة مع المتظاهرين والمعتصمين، بل أن تتخذ الصف الخلفي وراء الجيش لأسباب بعضها الرئيسي يتصل بالموقع الذي أضحت عليه قوى الأمن أو أصبحت تُنعَت به، وهو أنها «جيش الغالبية» و«جيش تيار المستقبل»، وإن يكن ثمة مَن يغالي في الوصف ويقول إنها صارت «جيش السنّة». ورغم اتصالات التنسيق بينها وبين الجيش، ليس ثمة غرفة عمليات عسكرية مشتركة بل تنسيق لا يبلغ حدّ وضع قوى الأمن في إمرة الجيش اللبناني. في المقابل لم يتحمّس رئيس الحكومة لاقتراح كان قد ساقه إليه مسؤول أمني بإعلان حال الطوارئ في البلاد تفادياً لانعكاسات سياسية على قرار كهذا يضع قوى الأمن في إمرة الجيش، ويحدّ من دور السلطة التنفيذية وفاعلية تحرّك الغالبية من ضمنها.
أما المواجهة السياسية فرسمتها، عند كل من طرفي النزاع وهما قوى 14 آذار والمعارضة، خطوط حمراء، منها:
1 ــــ أياً تكن وطأة التظاهرات والاعتصامات، فلا رئيس الحكومة ولا الغالبية في صدد الرضوخ لما تطالب به المعارضة، وهو الثلث زائد واحداً في حكومة وحدة وطنية جديدة. واستناداً إلى أوساط بارزة في هذا الفريق، فإن إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري يقع خارج أي مساومة لحل سياسي يقتضي أن ينحصر بأمرين متلازمين: انتخاب رئيس جديد للجمهورية لقاء حكومة وحدة وطنية لا تلحظ ثلثاً زائداً واحداً للمعارضة. وهو موقف قاطع تتمسّك به الغالبية في الوقت الحاضر، على وفرة إشارات سابقة كانت قد عبّرت عن احتمال تجاوبها مع اقتراح من هذا النوع. وهذا ما كان قد أسرّ به رئيس الغالبية النائب سعد الحريري في آخر جلسات التشاور، مخاطباً الرئيس نبيه بري ورئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد أن المحكمة الدولية «خط أحمر» غير قابل للتفاوض، وأن الخوض في حكومة وحدة وطنية يحتّم عليه عدم التفرّد بالقرار، والتشاور مع شركائه الآخرين في الغالبية، وتحديداً رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع الذي يضع الاستحقاق الرئاسي في سلّم أولويات قوى 14 آذار بعد تلقيه وعداً من الحريري وجنبلاط بأن يوافقا على من يسميه القادة المسيحيون في الغالبية رئيساً للجمهورية، ولا يكون في عداد كتلتيهما.
2 ــــــ بدورها، المعارضة ترسم خطها الأحمر على نحو مماثل في التصلّب: التظاهر والاعتصام قرار نهائي وقاطع، ويُعلنه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله. وسيكون التنفيذ على مراحل متدرّجة، متصاعدة في وتيرة المواجهة إلى حدّ فرض عصيان عام وكامل على السلطة اللبنانية سعياً إلى انهيارها باستقالة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
وتبعاً لمعطيات يتحدّث عنها مسؤولون بارزون في المعارضة، فإن تحرّك هذه سيكون حلزونياً، يبدأ من خارج بيروت ويتمدّد تدريجاً يوماً بعد آخر إلى العاصمة بعد التضييق على مداخلها لشلّ أي نشاط رسمي واقتصادي وسياسي. ووسط سرّية تحوط بخطة المعارضة، لا تستبعد هذه أن تكون ثمة خيارات عدة للانطلاق من مكان ما، من المطار أو المرفأ أو من أي مكان مربك. لن تكون ثمة ساحة موقوفة على فريق دون آخر، ولن يتردّد أنصار المعارضة في الاعتصام بالقرب من أنصار قوى 14 آذار إذا سبقهم هؤلاء إلى ساحة الشهداء أو ساحة رياض الصلح.
أما الوجه الآخر من التظاهر والاعتصام ـــــ وتحوّطاً من ردّ فعل تُقدِم عليه الغالبية لتوجيه الانتباه إلى مواجهة من نوع آخر ـــــ فهو أن المعارضة ستكون معنية كذلك بالدفاع عن بقاء رئيس الجمهورية إميل لحود في قصر بعبدا، والحؤول دون وصول الفريق الآخر إليه لإرغامه على إخلائه من أجل إسقاط شرعيته الدستورية كاملة، وفي الوقت نفسه الحؤول دون حصول اشتباك بين متظاهري قوى 14 آذار ولواء الحرس الجمهوري. لكن ذلك يعني حكماً اشتباك أنصار الشارعين المتقابلين.
3 ــــــ بمقدار ما تعيش الغالبية ذعر اصطياد زعمائها بأعمال اغتيال، تقارب المعارضة استحقاق المواجهة في الشارع بقلق لا تكتمه. فريق الغالبية يسكنه رعب حمل رئيس الحكومة والوزراء وعدداً من النواب على الإقامة الدائمة في غرف في السرايا الكبيرة والمبيت فيها حتى إشعار آخر، وقد توافرت لهم مقومات السلامة الشخصية والمؤن والحاجات التي تتطلّبها إقامة استثنائية كهذه لا سابق لها، مع معرفتهم سلفاً بأن المعتصمين لن يقتحموا السرايا الكبيرة. وفريق المعارضة يجازف برهان خطر، وقد يكون مكلفاً، هو أن استقالة حكومة السنيورة تحت الضغط قد لا تكون مؤكدة، إلا أنه ليس في وسع هذا الفريق إلا التصرّف على أساس أنه هدف حتمي لإرساء توازن قوى جديد في الحكم والشارع في آن واحد.
لذا يعتقد المسؤولون البارزون في المعارضة أن نجاح خطتهم في انهيار كامل لسلطة الغالبية في مجلس الوزراء في غضون عشرة أيام يقلب الأوضاع رأساً على عقب، وخصوصاً أن ثمة مَن يرجّح أن يصدر رئيس الجمهورية، في حمأة التظاهر والاعتصام وإحجام الغالبية عن التسليم باستقالة الحكومة، مرسوماً يعتبر فيه الحكومة مستقيلة استناداً إلى صلاحيته الحصرية المنصوص عليها في المادة 53 من الدستور تكريساً لهذا الانهيار.