جوزف سماحة
الرئيس الأميركي جورج بوش في عمان. سيجتمع مع رئيس الوزراء العراقي الموجود في منصبه، بضغط أميركي، منذ ستة أشهر. سيتقدم إليه بطلب بسيط: إنهاء التوتر في العراق. كيف؟ بضبط الميليشيات. ولكن كيف؟ لا جواب على الأرجح.
بوش قادم إلى الاجتماع من خرائب سياسية، والمالكي من خرائب أمنية يدور سجال أميركي حاد لتعريفها: هل هي حرب أهلية أم لا؟ البحث الأكاديمي لا يغيّر شيئاً في الواقع الصعب، والأفكار التي يحملها بوش لن تفعل، على الأرجح، سوى زيادة الوضع صعوبة.
يرى بوش ما لا يراه غيره. يرى ديموقراطيات بازغة في هذا الشرق الأوسط الكبير. ويرى هجمات إرهابية تحاول، عبثاً، تدميرها. تشاركه وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس في رؤاه ما دام العدوان الإسرائيلي على لبنان، في عرفها، ليس إلا «آلام المخاض لولادة الشرق الأوسط الجديد»... الديموقراطي حتماً.
إذا كان من ديموقراطية ما، فهي في ما أقدم عليه الشعب الأميركي من تعبير عن رفض كاسح لسياسة الإدارة في العراق. وكذلك يمكن أن نرى جانباً من هذه الديموقراطية في ما تظهره استقصاءات رأي رسمية أميركية، تؤكد أن غالبية من العراقيين تؤيّد انسحاباً فورياً للاحتلال. أما عن لبنان، فيكفي القول إن الذين يدعمهم بوش هم الذين يرفضون الاحتكام إلى الشعب في انتخابات نيابية مبكرة.
لا ندري من أين يستمدّ بوش هذه القدرة الاستثنائية على الإنكار. وهي لا تتجسّد في رفض معاينة الواقع العراقي كما هو، بل أكثر من ذلك، في السعي الحثيث لإقحام لبنان في فردوس الحريات الذي أقامه الاحتلال في العراق، لا بل في بغداد، أو، بالأحرى، في «المنطقة الخضراء» منها حصراً.
إذا وضعنا الحسابات السياسية والاستراتيجية جانباً، وإذا وضعنا رؤية محدّدة للمصالح الأميركية جانباً، وإذا وضعنا التأثير الذي تمارسه لوبيات وقوى ضغط جانباً، يبقى أمامنا أن نحاول الدخول في المجاهل النفسية لرجل يملك صلاحيات واسعة ويصرّ على الاستمرار في نهج تثبت الوقائع في كل لحظة مخاطره.
عن جورج بوش ترجى مراجعة جوستن فرانك (كتاب «الرئيس على أريكة التحليل النفسي»).
يكتب فرانك (وهو محلل نفسي): «لو أن أحداً من مرضاي كرّر أمامي أشياء وفعل أشياء أخرى، لكنت أردت أن أعرف لماذا يفعل ذلك. وقلقي سوف يتزايد إذا ما اكتشفت أنه اعتاد استعمال كلمات تخفي معانيها الحقيقية وتؤثر في شخصيته وتحجب جوهر أفعاله. أما إذا أبدى هذا المريض وجهة نظر متعالية ومتصلّبة تتصف بتمييز مبالغ في تبسيطه بين الصواب والخطأ، الخير والشر، الحلفاء والأعداء، فسوف أتساءل عن قدرته على إدراك الحقيقة بشكل عام. أما إذا كشفت أفعاله عن لامبالاة غير مكترثة، وحتى سادية، تجاه المعاناة الإنسانية مغلّفة بادعاءات ورعة من العطف، عندها سأقلق على أمن الناس الذين تتعلق أرواحهم به. وقد لاحظت فعلاً على امتداد... الأعوام الماضية، بقلق متزايد، صفات التنصّل وعدم الثبات والإنكار عند فرد كهذا. لكنه ليس أحد مرضاي. إنه رئيسنا».
يروي فرانك سيرة شخصية لبوش. ينشئ له بروفيلاً سيكولوجياً مبنياً على ركام من التفاصيل والمعطيات والمعلومات والملاحظات. يتابعه منذ طفولته المبكرة وعلاقته المضطربة بوالديه. يتوقف كثيراً عند الفترة الماجنة من حياته التي استمرت حتى سن الأربعين حين «وُلد ثانية» على يد المبشّر الأصولي بيلي غراهام، فترك إدمان الكحول وارثاً، على الأرجح، أضراراً بالغة تؤثر على سويّته وسلوكياته.
يرى فرانك أن بوش ينظر إلى العالم كأنه مدمّر سلفاً نتيجة من سبقه في السلطة (وبينهم والده) وبتأثير الأشرار الأجانب وكل مخالف في الرأي. وتؤدي هذه النظرة إلى توليد قدرة تدميرية تبحث عن تحقيق نفسها. إن تاريخ بوش الشخصي أنتج رجلاً يتمتع بتحديات نفسية بالغة وغامضة ومتأصلة، وهي تحديات تجعل من سلوكه العام طريقة في معالجة مخاوفه. لا يعود يعرف كيف يضحك، أو يمشي، أو يتكلم، ويصبح مندفعاً باستمرار إلى إيذاء الآخرين ولو عبر النكات أو إظهار تعاطف كاذب ومصطنع.
يعاني بوش ميلاً إلى إنكار يوازيه ميل إلى الاستعراض، ويحتاج إلى ترتيب الأمور الخارجية بتبسيط هو الرد الوحيد على التموّجات المخيفة التي تجتاحه في الداخل، ويحوّل الحزن إلى شعور انتقامي لأنه يرفض الاستبطان ويندفع إلى الخارج، ويلجأ إلى تنظيم روتينه لطرد القلق، بشكل يحل النظام الصارم محل الكحول في تهدئة الانفعالات.
العلاقة بين بوش وخليته العائلية مشروحة باستفاضة في الكتاب. إن للرئيس الحالي مشكلة جدية مع الرئيس الأسبق، والده. ولقد سبق له التعبير عن ذلك غير مرة، مشيراً إلى أن الأب الذي يوجّهه أب سماوي وليس أرضياً. يمكن القول، من باب الطرافة، إن الصلة المضطربة بالأب قادت الابن إلى حرب العراق ثانية، ولكن ما لا شك فيه أن بوش الابن، والمحيطين القريبين منه، بنوا سياستهم العراقية على ضرورة تجاوز ما حصل في 1990 وعلى اعتبار الامتناع عن دخول بغداد وقتذاك تقصيراً فادحاً.
ليس سرّاً أن بوش يريد إظهار التفوّق على أبيه (كسباً لرضى الأم الباردة والغائبة)، ولقد عانى، في مراحل سابقة، من أن العائلة تدخلت غير مرة لإنقاذه مالياً، أو لحمايته دون المشاركة في الحرب. هذا الماضي يدفعه دفعاً إلى التظاهر بأنه بلغ سن الرشد وبات يستطيع اتخاذ القرارات، وبالضبط تلك القرارات التي تردّد والده أمامها.
تدور الأيام ويفشل «التمرّد الأوديبي». ها هو جيمس بيكر يعود في محاولة لإنقاذ الابن بعد أن كان متشاوفاً على الوالد. وها هو روبرت غيتس يحل في الدفاع محل دونالد رامسفيلد الذي لم يكن يطيق الأب. باختصار، ها هم «العقلاء» الأكثر نضجاً، أصدقاء الوالد، يحاولون نجدة الابن الضال الذي ذهب به تهوّره الطفولي إلى الكارثة.
لن يكون الأمر سهلاً. سيقاوم جورج بوش وسيمانع. من كان مثله لا يؤخذ إلا غلاباً. الحل في إرغامه على التوقف عن الإيذاء.
لا يجب على فؤاد السنيورة أن يجيب إذا قيل له إن الرئيس بوش على الهاتف!