غسّان سعود
صندوق أسود آخر، في وزارة التربية هذه المرة. فالتقرير الخاص للمفتّشية العامة التربويّة يظهر أنّ هدراً يحوّل الأموال من حيث يفترض أن تُنفق إلى قنوات أخرى، فيما تبقى المدارس الرسميّة غارقة في أمراضها المزمنة. ويدفع هذا الوضع المواطنين إلى الاستدانة لتأمين مقعد لأبنائهم في المدرسة الخاصة، بعدما فقدوا ثقتهم بالدولة التي تُشرّع الهدر وتتغاضى عن معالجة أساس المشكلة
طريق عام يخترق تكميلية مزرعة يشوع، صفوف مشتتة يبعد بعضها عن بعض عشرات الأمتار، أطفال باللباس المدرسي يخترعون لعبة جديدة شرطها البقاء على قيد الحياة في مواجهة السيارات التي تعبر مسرعة. لعبة تُسقط سنوياً عشرات الإصابات (ثماني إصابات في العام الدراسي 2005 ــ 2006). تكميلية تفتقر إلى التقنيات التكنولوجية، يناوب على التعليم فيها سبعون أستاذاً، برغم أن عدد تلاميذها لا يزيد على مئتين حدّاً أقصى، أي بمعدل أستاذ لأقل من ثلاثة تلاميذ.
تتوالى المشاهد الكاريكاتورية. ففي مدرسة أبلح الرسمية، لا يحلم التلامذة بكومبيوترات متطورة أو مختبرات حديثة. كل ما يرغبون به هو توافر مياه شفة وعدد كاف من المقاعد المدرسية. وفي الوقت نفسه، تنتصب خطوط التوتّر العالي في ملعب مدرسة القلبين الأقدسين في المنصوريّة، مسلطة خطر السرطان فوق رؤوس التلاميذ.
مزيد من المشاهد: مراحيض لا يمكن الدخول إليها، أو المرور بقربها. رطوبة تملأ الصفوف، وتترك بصماتها على صحة التلامذة. وبؤس يطغى على التحسينات التي شهدتها بعض المدارس الرسمية، ويسخّف الكلام عن المجمعات المدرسية التي تستحدث ببطء.
وبين خيار أن يدفع التلميذ الثمن في المدرسة الرسمية أو يدفع أهله الثمن في المدرسة الخاصة، تأتي إدانة الدولة من مؤسساتها. فتتكرر العبارات نفسها في التقارير السنوية للمفتشية العامة التربوية، من «الكلفة الباهظة للأجارات»، مرورًاً بـ«عدم توافر المواصفات الهندسية والفنية والتربوية اللازمة لمعظم هذه الأبنية، وبعضها معدّ في الأساس للسكن والبعض الآخر يحتاج إلى الصيانة أو الإضافة»، وصولًا إلى «تعثر العمليات التعليمية» بعد عشر سنين على إقرار المناهج الجديدة للتعليم التي يحتاج تطبيقها إلى المختبرات والمكتبات وقاعات المطالعة والنوادي المدرسية والملاعب والمسارح.
وأمام الواقع المأساوي، تردد وزارة التربية المعزوفة نفسها التي ترتكز على عدم توافر الأموال لتحسين حال المدارس. بينما يتضح هدر الوزارة للمليارات من دون محاسبة، إرضاء للمنتفعين. وأبرز مظاهر استنزاف مالية الدولة في وزارة التربية، وسوء إدارة الموازنة، تتمثل في حالات التعاقد في التعليم الأساسي والثانوي. إذ بدل أن تنخفض حصص التعاقد، ارتفع العدد من 139446 حصة أسبوعياً للعام الدراسي 2003ــ2004 إلى 150463 حصة اسبوعياً للعام الدراسي 2005ــ2006.
وبحسب تقرير المفتشية العامة التربوية، لا تتطابق هذه الزيادة مع الحاجة الفعلية للمدارس التي تتمتع أصلاً بفائض عددي، في غياب معيار تحديد مدى نوعية الحاجات الفعلية للمدارس. وقدّر عدد حصص الهدر عبر التقاعد للعام الدراسي 2005ــ2006 بـ 46475 حصة في التعليم الأساسي. أما الكلفة المالية للهدر، فتقدر كما يأتي: عدد الحصص المهدورة اسبوعياً 46475 × عدد الأسابيع 28 × كلفة الحصة 8000 = المبلغ الإجمالي المهدور 10.410.400.000 ل.ل
وفي السياق نفسه، دلت إحصاءات المفتشين التربويين على أن حصص التعاقد الفعلي في التعليم الثانوي ناهزت في العام الدراسي 2005ــ2006، 16517 حصة بينما الحاجة الفعلية هي 13878. أي أن الهدر في التعليم الثانوي بلغ 2639 حصة، وكلفته 1.477.840.000 ل.ل. وهو ما يُحتم، بحسب المعنيين بالملف، حسم الخيارات المتعلقة بمستقبل المؤسسات المعنية بإعداد المعلّمين (كلية التربية ودور المعلمين والمعلمات)، من أجل توفير الحاجات الحقيقية للمدارس من المعلمين والاساتذة. عندها فقط، يعود التعاقد الى حجمه المتلازم مع تلبيته لحاجات محدودة واستثنائية.
وتمثّل دور المعلمين نموذجاً آخر للهدر وسوء استخدام السلطة، فيُحرم التلاميذ من حقوقهم، وتقطع الأموال من موازنتهم لمصلحة دور للمعلمين والمعلمات باتت مهمتها تقتصر على التدريب فقط دون الإعداد. الأمر الذي يجعل أكثر من 65% من الموارد البشرية والمالية العائدة إليها، بدون جدوى. ويتقاضى 295 موظفاً في دور المعلمين والمعلمات أجورهم من خزينة الدولة (نحو مليارين ونصف مليار ليرة سنوياً)، ولا يعملون إلاّ النذر اليسير من المهمات، علماً بأن تدريب المعلمين في الدور الست الملحوظة لهذه الغاية هو على عاتق أساتذة متعاقدين.
يوصي تقرير المفتشية التربوية بالمعالجة السريعة لوقف الهدر الحاصل في هذا النطاق. لكن المعالجة، حتى إشعار آخر، معلقة. فالاهتمام الآن في وزارة التربية، ينصبّ على الجنوب. وتتركز المعالجة على تأمين متطلبات المدارس. أما الإصلاحات الإدارية، فتتطلّب قراراً سياسياً معلقاً بدوره حتى إشعار آخر.
لكن المفتشية، بعد توصيتين ملحّتين، أوضحت في التقرير الثالث، أن المطلوب ليس التخلي عن المدرّسين الملحقين بالدور، بل توزيعهم على المدارس والثانويات المحتاجة الى خدماتهم واختصاصاتهم، إضافة إلى توزيع الموظفين الإداريين التابعين لملاك المركز التربوي على الدور الملحوظة للتدريب المستمر. وتأكدت «الأخبار» أن دور المعلمين تشغل 34 بناءً، لا تملك الدولة سوى أربعة منها فقط. وهناك سبعة عشر مركزاً تشغل أقساماً من أبنية مدرسية أو جامعية، بينما تستأجر الدولة ثلاثة عشر بناءً منها. وتبلغ بدلات إيجارها 440.232.820 ل.ل. منها 222 مليون ليرة لدورٍ متوقفة نهائياً عن العمل. المبلغ الذي يُحدث تحولًا إيجابياً هائلاً في واقع عشرين مدرسة على الأقل.
لكنّ هذا التحوُّل يبدو ممنوعاً الإقدام عليه، لضمان مصلحة المدرسة الخاصة ونفوذ من يقف وراء الاستثمار فيها. فبعض المدارس الرسميّة لا يحتاج إلى أكثر من عشرات الكراسي وبضعة ألواح للكتابة، وتطبيق القوانين على موظفي التنظيف والصيانة. لكن حتى هذه الأمور تبدو صعبة التطبيق، أو ممنوعة من التطبيق. وأمام هذا الواقع، يصبح نافلاً التساؤل عن امتناع اللبنانيين عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة الرسمية، إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.


حين يفيض الفائض
يؤكد المطّلعون على ملف المدرسة الرسمية الحاجة الماسة لخطة عمل واضحة وقرارات حاسمة بالتخلي عن الفائض، وتأمين حل قانوني لغير الأكفياء، وخصوصاً أن ثمة عدداً كبيراً من الأساتذة في نطاق العمل الإداري، لا حاجة فعلية إليهم في هذا المجال. وكان القرار الوزاري رقم 248/تاريخ 3/10/2005 قد التف على مشكلة الفائض، فأجاز إمكان تكليف أساتذة الملاك من حملة الإجازة الفنية في الاختصاصات الصناعية، تدريس مواد الرياضيات والفيزياء والعلوم لاختصاصات شهادة البكالوريا الفنية والتكميلية المهنية والكفاءة المهنية، بهدف استكمال نصابهم القانوني للتدريس (الفقرة ثانياً من المادة الثالثة).
من جهة أخرى، أشار التفتيش التربوي إلى نقل 427 معلماً من مدارس محتاجة إلى خدماتهم، وإلحاق 123 معلماً منهم بمدارس لديها فائض في عدد معلّميها، بشكل استنسابي. وتشكّل هذه المناقلات، وفقاً للتقرير، عبئاً ثقيلاً على حركة توزيع المعلمين على المؤسسات التعليمية، واللجوء إلى الحل الجاهز دائماً لمعالجة المشكلات الناجمة عن هذه المناقلات، المتمثل بالتعاقد، مع ما في ذلك من سلبيات إدخال عناصر غير مدرّبة إلى الجسم التعليمي.


تأنيب عنفيّ
رغم المشاكل اللوجستيّة، تتمثّل المعاناة الأبرز لدى تلامذة المدارس الرسمية في الإهانات العلنية التي يتعرضون لها من الأساتذة، كالصراخ والتأنيب العنفي.
تجدر الإشارة إلى أن قانون العقوبات اللبناني في مادته 168 «يجيز ضروب التأديب التي ينزلها بالأولاد آباؤهم أو أساتذتهم على نحو يبيحه العرف العام». لكن النظام الداخلي للثانويات والمدارس الرسمية يحظر على موظفي التعليم إنزال أي عقاب جسدي بالطلاب، كما يحظر عليهم التأنيب بكلام «تأباه التربية والكرامة الشخصية».
وتكفل اتفاقية حقوق الطفل التي صادق لبنان على كل بنودها، في مادتها الـ 37، ألا يتعرض أي طفل للتعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. ومن الغريب عدم تسجيل أية عقوبات بحق أساتذة عنّفوا تلامذتهم خلال العام الدراسي 2005ــ2006، وهو الأمر الذي يثير شكوكاً كثيرة في التستّر عمّا يتعرض له التلامذة وعدم معاقبة الأساتذة المخالفين.


العلم في الصغر
من أصل 1867 مدرّسة في صفوف الروضة، ينتمي 55% منهن فقط إلى الملاك. أمّا الأخريات فمن المتعاقدات. والجدير بالذكر أنّ 43% من هؤلاء فقط مختصّات في مجال رياض الأطفال، وفقاً لتقرير المفتشية العامة التربوية لعام 2005 الذي يشير أيضاً إلى ارتفاع نسبة المعلمات غير المختصّات في محافظات البقاع (70%) والنبطية (67%) والجنوب (65%). ويشير التقرير إلى أن 70% منهن يدرِّسنَ في مرحلة الروضة فقط، في حين تتوزع الأخريات على غير مرحلة دراسية، وهو ما يؤدي إلى توزّع حصص الروضة على أكثر من معلمة، مع ما في هذا الوضع من سلبيات تربوية على الطفل. واللافت أن 32% من معلمات الروضة لم يخضعن لأي تدريب فني.
وتؤكّد المفتشية أن 27% من الصفوف ليست قائمة في الطوابق الأرضية، وهو ما يرفع مخاطر استخدام الأطفال للسلالم، وبالتالي إصابتهم بأذى الوقوع أو التعثر، و49% من الملاعب غير مناسبة، و42% منها غير مسقوف. كما يفتقر الكثير من المدارس إلى الوسائل والتجهيزات والمواد التربوية الخاصة بمرحلة الروضة، والبعض لا يملك «ملف الطفل» و «بطاقة التقييم». وأوصت المفتشية العامة التربوية، في تقريرها السنوي، وزارة التربية والتعليم العالي بالعمل على: تدريب العاملات في رياض الأطفال اللواتي لم يخضعن لأي تدريب فنّي حتى تاريخه، بمن فيهن المتعاقدات، ومعالجة أوضاع المدارس القائمة في أبنية غير ملائمة، أو التي تشمل صفوفاً أو ملاعب غير مناسبة. وجميع التوصيات، وفقاً لمصادر في وزارة التربية، أخذت بعين الاعتبار، وبدأ تفعيلها قبل سنوات، لكن الوزارة تحتاج إلى الوقت، عملياً إلى الكثير من الوقت.