جان عزيز
كان الكلام صريحاً في بكركي في اليومين الماضيين. وأبلغ ما في صراحته تناقض بعضه مع البعض الآخر 180 درجةّ. فبعض زوار الصرح سارع صباح الخميس، غداة صدور بيان مجلس المطارنة، الى «القيام بواجب التهنئة والتقدير». مع ما يرافق ذلك من اشارة الى «أجواء الارتياح التي خلّفها بيان اصحاب السيادة في اوساط الناس». والبعض الآخر زار صاحب الغبطة في الصباح نفسه، للتنبيه ولفت النظر وإبداء الرأي، على قاعدة المصارحة والمكاشفة و«الاعتراف»، ومع الاشارة الى «أجواء القلق التي اكتنفت اكثرية مسيحية واضحة، عقب صدور البيان».
حتى إن اصحاب الرأيين المتناقضين التقوا طيلة اليومين الماضيين على مداخل بكركي، وفي اروقتها، بين مغادر وواصل، وكان اكثر من غمز ونقد وإسماع وتسميع. وبرغم وحدة المكان والزمان والموضوع، كان الزوار من الطرفين، يدخلون «كرسي الختيار» باسمين ارتياحاً الى حجتهم، ويخرجون ضاحكين اطمئناناً الى فعل إقناعهم وتأثيرهم. وليس الأمر انفصاماً في موقف الصرح بالطبع، تقطع اوساط قريبة منه، ولا هو اللاموقف، ولا الوهم في إرضاء الجميع. بل هي الصعوبة في حسم الامور، وسط ضبابية الظروف والمتغيرات. وتشرح الاوساط نفسها: لنستعرض مقولات الطرفين، لندرك مدى حراجة موقف بكركي.
فمن جهة أولى ثمة فريق «مداوم» في الصرح، وخلفه امكانات هائلة سياسية وإعلامية ومالية، تؤهّله للحضور الدائم داخل لبنان وخارجه، ولمواكبة صاحب الغبطة في كل خطوة، ولطرقه بمقولات هذا الفريق، وأبرزها: ليس صحيحاً أن سوريا خرجت نهائياً من لبنان، وها هي تتحفز لمحاولات عودة ما، بين السياسة والامن، أو أكثر. وبالتالي فإن معركة السيادة لا تزال اولوية، لا يمكن تجاهلها، ولحسم النصر على هذا المستوى لا بد من إنجاز مسألتين: نزع سلاح «حزب الله»، لكونها أداة ممكنة للاستخدام السوري، وقيام المحكمة الدولية، وسيلةً لردّ خطر النظام في دمشق، عن الديموقراطية والسيادة اللبنانيتين الفتيّتين.
وتتابع مقولات هذا الفريق، أن ثمة فرصة لبنانية سانحة اليوم لتحقيق ذلك، تتمثل في «الموقف اللبناني» الحاسم للفريقين الاكثريين داخل السنة والدروز، والمتمثلين ببيتي الحريري وجنبلاط، ذلك أن وقوف الرجلين في مواجهة بشار الاسد، يمثّل فرصة تاريخية لاقتناص الميثاق الداخلي والسيادة الخارجية في آن. وهي لحظة تفوق بأهميتها محطة 1943. وبالتالي فإن لبنان الوطن والدولة والكيان، كما الحضور المسيحي فيه، «يلعبان» الآن ولا يمكن التفريط بهما. لذلك يخلص هذا الفريق الى «توصياته البطريركية»: الانخراط في المعركة الدولية ضد سلاح «حزب الله»، عبر «الكونسورتيوم» الأممي ــ الغربي ــ الاميركي وقرارات مجلس الأمن، كما ضد النظام في دمشق، عبر المحكمة الدولية وآلياتها، شرط لا بد منه ولا غنى عنه لإنقاذ المسيحيين ولبنان. ما بقي؟ كله تفاصيل مضمونة التحقيق. فالشراكة والتوازن وصحة التمثيل وتصحيح الخلل وغيرها، تصير اموراً محتومة وفورية، عندما نفرغ من سلاح «الحزب» هنا، ومن نظام «الحزب» هناك...
وفي المقابل ثمة فريق آخر، حاضر في بكركي في المناسبات، امكاناته مقتصرة على اكثرية مسيحية شعبية، واطمئنان الى مبايعته من الصرح «زعيماً لطائفته» قبل 15 شهراً، وخصوصاً الى اقتناع عميق بأن بكركي التي تنكّبت طيلة 15 عاماً مهمات القيادة السياسية إبّان التصحير السوري للساحة المسيحية، تريد اليوم الانكفاء وعدم التورط وترك الشأن الزمني لأصحابه.
وفي هذه البيئة، تترسخ مقولات اخرى مغايرة تماماً: ليس صحيحاً أن ثمة خطراً من عودة سورية. لا بل إن التصرف السوري منذ جلاء 26 نيسان 2005 ، لم يكن بدافع العمل على العودة، بقدر ما هو بسبب الخوف على «الدولة» في دمشق، لانّ نظام «السنية السياسية» الذي قام في لبنان، مقتنع بأنه لا مجال لتأبيد هيمنته على جميع اللبنانيين، في ظل هذا «النظام» السوري، وذلك لأسباب مكتومة بقدر ما هي معروفة. وبالتالي فإن كل المأزق اللبناني الراهن، منبثق من سعي جماعة «الحريرية السياسية» الى الإتيان بنظام سوري «شقيق توأم»، يمثّل الحماية اللازمة لسلطتهم. وإلاّ كيف لأصحاب هذا النهج أن يقنعونا بتحالفهم الوثيق اليوم مع عبد الحليم خدام، رمز العداء السوري للبنان ومسيحييه، وكيف لهم أن يفسروا مراثيهم في غازي كنعان، حاكم لبنان العسكري في أسوأ أيام عهود الوصاية؟!
وتضيف مقولات هذا الفريق الثاني، أن نهج «السنية السياسية» هذا، وتصرف «اصحاب دولته» مع المسيحيين، نيابة وحكومة ورئاسة، على قاعدة «ذمية سياسية» حديثة ومعاصرة، هو ما سعّر مشكلة سلاح «حزب الله»، بعدما تكوّن لدى الشيعة عامة، انطباع راسخ بأن «الخوف من سوريا» الذي استُخدم ذريعة «لتذميم» المسيحيين، ستقابله نظرية «الخوف من اسرائيل»، أو حتى «عليها»، لا لشيء إلا للهيمنة على الجماعة الشيعية بكاملها.
ويخلص هذا الفريق الى توصياته المقابلة: الاولوية اليوم لمواجهة الهجمة الشرسة لنظام «السنية السياسية»، ولفرض التوازن والشراكة فوراً، حكومة وقانون انتخابات وانتخابات نيابية مبكرة ثم رئاسية، بعد أن تطمئن سوريا فتكفينا شرها، ويطمئن شعب حسن نصر الله ونبيه بري، فتنفتح سبل معالجة السلاح.
أي من الفريقين تصدّق بكركي أو يقنعها؟ تبدو المسألة مستعصية، ويبدو الصرح متّكلاً في ذلك على الروح القدس، الروح الذي استجاب دعاء الصرح طيلة أعوام الوصاية، بعدما بدا كأنه قد خذله مرات قبلها. فماذا عن هذه المرة؟