ابراهيم الأمين
“بئس سلطة تطلق النار على فقراء على طريق المطار ولا تطلق النار على من قصف المطار”، عبارة صفق لها الحضور بقوة عندما قالها الشاب عاطف الإبريق في احتفال تكريمي لشباب وشابات من صيدا، لما قاموا به في عملية إزالة آثار العدوان.
لم يكن الأمر يحتاج الى اكثر من هذه العبارة، لأنه لا أحد يعرف حتى اللحظة السبب الحقيقي الذي يجعل إطلاق النار على المتظاهرين يحصل حصراً في الضاحية الجنوبية. عام 1993 حصل ذلك عندما تظاهر شباب من حزب الله رفضاً لاتفاقية أوسلو. قتل من قتل ولم ينته الأمر الى إجراء يحول دون تكرار الأمر. بعد نحو عشر سنوات، تكرر الامر نفسه. رجال القوى الامنية يطلقون النار على متظاهرين في حي السلم ويوقعون بينهم قتلى وجرحى. ومع ذلك فإن التحقيقات غابت دون نتيجة ولم تتخذ الإجراءات لمنع تكرار الأمر. قبل أيام عدنا الى ما كنا عليه: رجال الأمن يطلقون النار لتفريق حشد على طريق المطار نفسه.
في الحالات نفسها، الجهة الرسمية هي نفسها، والجمهور هو نفسه. ولا إجراءات. وكأنه ليس لدى السلطة او لدى القوى الامنية المعنية أي روادع تمنعهم من اللجوء الى هذا الأسلوب الدموي في تفريق متظاهرين أو محتجين على امر ما، وكأن لديهم دفاعاً مدنياً وأدوات لرش المياه وقنابل مسيلة للدموع وهراوات تستخدم فقط في مناطق اخرى او مع جمهور آخر، أو كأن لهذه السلطات المتعاقبة والقوى الامنية ذاتها الهيبة بالرصاص فقط على أبناء هذه المنطقة، أو هم يشقون انفسهم للعثور على متحاورين من المتظاهرين في مناطق اخرى او مناسبات اخرى ولا يعرفون سوى صوت الرصاص لغةً مع ابناء هذه المنطقة، أو كأن ابناء هذه المنطقة لم تلدهم امهات او آباء من البشر، او هم ينتمون الى عالم يعيش على القمع الدموي، وكأن ما ضربته الطائرات الاسرائيلية طوال 33 يوماً لا يكفي حتى يأتيهم من يطلق عليهم النار ويغرقهم بالدم، او ربما كان هناك من يتمنى لو ان الطائرات الاسرائيلية تولت ازالة المخالفات التي قام بها قسم من هؤلاء المواطنين في المنطقة المذكورة.
ثم هل حصل في تاريخ هذه السلطة المتعاقبة بالظلم قبل خروج الجيش السوري من لبنان وأثناءه وبعده، ان نهر أحد من ارباب هذه السلطة اصحاب المخالفات التي تنتشر كالفطر على طول الشاطئ اللبناني، او المجمعات التي تغطي مساحات كبيرة من مناطق لبنانية عدة تخضع نظرياً لسلطة الدولة وتخضع عملياً لسلطة هذا الزعيم أو ذاك؟ وهل حصل يوماً ان خرجت حكومتنا بجيشها من الجباة لا من الجنود او رجال الدرك لتحصيل عائدات او غرامات من البنى القائمة على البحر او في العمق؟ وهل تجرأ القادة المدنيون والعسكريون يوماً على مواجهة زعيم طائفي او رئيس ميليشيا من الذين نهبوا ولا يزالون يعتدون على الاماكن العامة وحتى على السلامة العامة؟
ومع ذلك فإن هذه السلطة، كما سابقاتها، لا تعترف بالمساءلة. وكل من يحاول الآن الاعتراض على موقف او قرار او مشروع بيان او سلوك تقوم به سلطة الأكثرية يكون من معارضي المحكمة الدولية او من معارضي كشف حقيقة من قتل الرئيس رفيق الحريري. وكل من يفكر لحظة او برهة في مناقشة وزير الداخلية بالوكالة احمد فتفت سوف يكون مصيره شكوى لدى لجنة التحقيق الدولية ولدى مجلس الامن وربما لدى مكتب شكاوى يفتح غداً في سفارات الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا.. وربما الأردن ايضاً، ليصار بعدها الى محاسبته. ومع كل فعل من هذا، ينسى وزير الداخلية انه بتقييمه الدائم للاعتراضات على سلوكه إنما يحرض جماعته او أنصاره على فعل ما. وهو يعمل على ذلك اصلاً. حتى إذا ما قام “زعرانه” بعمل ما فهو يكون بريئاً باعتباره سبق ان حذر من التعرض له انتقاداً او غير ذلك، او كأنه بهذه الوسيلة يظن أنه يمكن وقف متابعة دوره كمسؤول. وهو يعرف ان ذلك لن يحصل.. علماً بأنه لا يكتفي بتحريض الخاضعين لسلطته من مؤسسات بل يعمد الى إطلاق مواقفه هذه ولا سيما ضد الإعلاميين، مستخدماً منابر بقصد الايحاء انه يعبّر عنها او يحتمي بها، كحالته عندما نطق بما نطق به قبل يومين من على باب دار الإفتاء وكأنه يريد القول إن التعرض له إنما هو تعرض للسنة. وهي حال كل القوى الطائفية المستولية على البلاد والعباد والتي تحوّل الموقف السياسي الى موقف طائفي لاعتقادها بأن ذلك يسهّل لها عملها في التجييش والتعبئة التي لن تقود الى امر آخر غير خراب هذه البلاد.
يوم تقرر إرسال القوة الامنية لإزالة مخالفات البناء، لم يعمد وزير الداخلية الى فتح تحقيق في الأسباب التي سهلت للمخالفين الاستمرار بأعمالهم غير الشرعية. ولم يحصل يوماً أن سمع اللبنانيون عن توقيف ضابط او عنصر من القوى الامنية من الذين أنفق عليهم المخالفون عشرات آلاف الدولارات كي يتستروا على أعمالهم. وهو الملف الاكثر قساوة في تاريخ قوى الامن الداخلي، حيث يعبث العشرات من المتنفذين بالإساءة الى سمعة عشرات الآلاف من العناصر الامنية. ولم يرتدع هؤلاء بعد. فتجد أرقام هواتفهم الخاصة في مفكرات المقاولين ومهندسي البناء، وفي مفكرات اصحاب المولدات الكهربائية والمتنفذين من الزعران المنتشرين في كل لبنان، والذين لا يعرف المرء سبب مظاهر الغنى على بعضهم دون ان يكون لسياق ما يحصلون عليه من دخل يتناسب ومقدراتهم المادية.. ألا تعج البلاد بهذه الحكايات؟ ألم تنجح الاجهزة الامنية المعنية داخل السلاك العسكرية يوماً في القبض على احدهم او اكتشاف فعلته؟
قبل ساعات من توجه القوى الامنية لقمع هذه المخالفات، كان هناك حدس لدى ضباط فيها وفي اجهزة اخرى بأن هناك من يريد أخذ الأمور الى ما لا تحمد عقباه. وكان هناك من كان يعرف ان طريقة الاستعداد للقمع تكفي لكي يشتم المعنيون بالأمر رائحة الدماء... ومع ذلك فسوف ينتظر اللبنانيون نتائج تحقيقات فتفت التي يتمنى اللبنانيون ألا تكون نسخة عن تحقيقاته في فضيحة ثكنة مرجعيون.