جوزف سماحة
لا ندري إذا كان وزير الداخلية بالوكالة أحمد فتفت يعرف كيف ينفّذ موظفو المطارات وسائقو الشاحنات إضراباتهم الاحتجاجية السلمية في بلدان ديموقراطية غربية متقدمة: يكتفون بتطبيق القانون. يقرأ موظفو المطارات واجباتهم بدقة متناهية ويقومون بتأديتها حرفياً. النتيجة: ارتباك لا يوصف في حركة المسافرين. ينجح الإضراب بقدر ما يُحترم القانون. وكذلك يفعل السائقون. يلتزمون بالحد الأقصى للسرعة ويسيرون جنباً إلى جنب. النتيجة: عرقلة سير استثنائية تشلّ الحياة في محيط المدن الكبرى.
لا ندري إذا كان وزير الداخلية بالوكالة يعرف أن تطبيقاً جدياً وحرفياً للقوانين، في فرنسا مثلاً، يرفع عدد المساجين بشكل لا يعود ممكناً استيعابهم، ويرتدّ سلباً على الحياة العامة.
ثمة حكمة في تطبيق القانون. هذه الحكمة هي التي تخون فتفت بعض الأحيان وآخرها ما حصل في الرمل العالي.
نبدأ من البداية. هناك مخالفات لذا لا بد من إزالتها. لا أحد يناقش في هذه المعادلة. النقاش تال على هذه البديهية.
يفترض بوزير للداخلية، حتى لو كان بالوكالة، أن يكون مدركاً لحساسيات الأوضاع في لبنان ولهشاشتها. ويفترض به أن يتنبّه إلى أنه يمثّل فريقاً. لقد كانت هذه «تهمة» إلى أن تبناها رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري بإعلانه أن هذه الحكومة هي «حكومة 14 آذار» (كان في وسعه أن يقول إنها حكومة لبنان كله ولكنها مدعومة من حركة 14 آذار). وكان يفترض بالوزير أن يأخذ في الاعتبار الانعكاسات السلبية جداً لدوره في ما يخص «ثكنة مرجعيون» ولآثار ذلك على القوى الأمنية التي بإمرته. ويمكن أن نضيف ما سبق له من وقوع في تناقضات جعلت صورته مشوّشة بعض الشيء: يبدو شديد الهدوء والعقلانية في إطلالاته التلفزيونية ولكن سرعان ما يكتشف قسم من اللبنانيين أن فخاً يُنصب لهم.
نزعم أن وزيراً سياسياً مثل فتفت كان يجب عليه أن يقود عملية معقّدة من نوع إزالة المخالفات بحصافة أكبر. كان يجب أن يضع نصب عينيه هدفاً واحداً: ليس مقبولاً، ولا بأي شكل من الأشكال، إراقة نقطة دم واحدة حتى لو اقتضى الأمر انسحاباً أمنياً، ومعالجات سياسية، واستكشاف مداخل أخرى لحل الموضوع.
نعرف أن ذلك ليس سهلاً في الأوضاع العادية وأن «الفوضى» التي تصاحب هذا النوع من الإجراءات مفتوحة على الاحتمالات كلها. لكن المشكلة هي، بالضبط، أن الأوضاع ليست عادية إطلاقاً، وأن الحرص على «حل سلمي» لأي إشكال له الأولوية المطلقة.
تأسيساً على ما تقدم يمكن القول إن الوزير يتحمّل المسؤولية السياسية عما جرى. وهذا، تماماً، ما فعله الوزير المستقيل حسن السبع بعد حادثة الأشرفية إذ بادر إلى وضع استقالته بالتصرف. وتحمُّل المسؤولية السياسية يعني، في هذه الحالة، أمراً واحداً: وضع ضوابط على تطبيق القانون باسم ما هو أرفع مقاماً من ذلك: السلام الاجتماعي والأهلي.
اتهام فتفت بالتقصير، هنا، يتجاوز الحادثة في حد ذاتها. إنه اتهام له بتعاطٍ غير مسؤول تماماً يمكنه، في الظرف اللبناني الحالي، أن يصبّ زيتاً على النار. إنه تحذير موجّه إليه من سلوك لا يقود في النهاية إلا إلى جعل تطبيق القانون مهمة أكثر تعقيداً وصعوبة. ولسنا، في لبنان، في موقع من يستطيع تحمّل هذا «الترف».
نعترف بأن ثمة معضلة مع فتفت. فالرجل «يحسن» الهرب إلى الأمام بشكل يجعله يفاقم خطأ ارتكبه. سلوكه اللاحق على تحميله المسؤولية السياسية عما جرى (وهو، هنا، يكرر سلوكه بعد حادثة مرجعيون، وبعد قضية الأجهزة الأمنية) يدل على ميله إلى اتباع نهج سياسوي يصعب، معه، الارتقاء بالعمل العام، أداءً أو نقداً.
أولاً ــ لقد اختار الرد على اتهام موجّه إليه إثر خروجه من زيارة إلى مرجع روحي وبعد اعترافه بأن الزيارة «جاءت متأخرة للتهنئة بشهر رمضان». كان في وسعه الانتظار للتهنئة بالعيد مثلاً. إلا أنه أراد، بخطوته هذه، خلط الأمور والتلميح إلى أنه متهم بسبب انتماء ما لا بسبب سلوك ما.
ثانياً ــ استند إلى «تحقيقات أولية» ليوجّه اتهاماً إلى «بعض المستفيدين» لا بل «بالتحديد إلى شخص من المستفيدين» بالمبادرة إلى إطلاق النار. لكنه، على طريقته، استدرك أنه «ينتظر التحقيق النهائي». هذا نقص في الجدية والاحتراف لا يُغتفر. أكثر من ذلك هذا نقص في تحمّل المسؤولية. لا يمكن الجمع بين «الحسم» و«الانتظار».
ثالثاً ــ كان يمكن التركيز على أن تعيين شخص بصفته مبادراً إلى إطلاق النار مع الإيحاء إلى أنه القاتل هو بمثابة تحريض على هذا الشخص. لن نفعل ذلك. لن نفعل ذلك لأن فتفت بات يكرر لازمة تكاد تصبح مضجرة. لقد شنّ حملة على «إعلاميين» (احزروا من؟) حمّلوه عبء ما حصل معتبراً ذلك «دعوة إلى القتل» وداعياً القضاء إلى أن «يضع يده على هذا الموضوع التحريضي ويبادر إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة». أضاف أنه لن يدّعي شخصياً «ولكن من واجب القضاء المبادرة إلى اتخاذ ما يراه مناسباً لأن هذا التحريض يصيب فعلاً في الصميم وليس شخصياً فحسب بل أيضاً مبدأ المؤسسات في لبنان ومبدأ احترام القانون».
يحدد فتفت للقضاء واجبه ويستخدم مصطلح «التحريض» في تجاهل كامل لتعريف «التحريض» الوارد في قانون المطبوعات اللبناني (المادة 24). لقد قصد المشترع إعطاء تعريف ضيّق لـ«التحريض» حرصاً منه على حماية الحرية والنقد وتمييزاً عن «جريمة الرأي».
لا أحد ينوي «التحريض» على فتفت. ولكن ذلك لا يحول دون الاختلاف السياسي معه ودون تعريض ممارساته للمساءلة. لا بل يمكن القول إن ما ذكره في تصريحه تحميل لمنتقديه جرماً لا يقل عن «الدعوة إلى القتل» وذلك بمجرد أنهم أبدوا حرصاً على دماء بريئة كان يجب صونها.
هذا تحدٍ نرفعه في مواجهة الوزير. يرفض «التعدي على الأملاك الخاصة والعامة بأي ذريعة». حسناً. هل نقدم له خريطة تفصيلية بالتعديات على الأملاك الخاصة والعامة والمكاسب المجنيّة من ذلك؟ هل يجرؤ، هنا، على تطبيق القانون؟ أما كان يجدر به البدء بهذه القضية المزمنة؟