جوزف سماحة
نحن، اليوم، الخميس 12 تشرين الأول. ثمة تعليقات جاهزة للصدور منذ مساء الأحد (15) وابتداءً من الاثنين (16). إنها التعليقات التي تتناول المهرجان الذي يقيمه «التيار الوطني الحر». سنقرأ ونسمع عن حشود قام بها حزب الطاشناق، وتيار «المردة»، وميشال المر، والحزب القومي. سيقال لنا إن الفضوليين من أبناء منطقة المهرجان كانوا كثراً، وقد اندسّ بينهم مناصرون لـ«حزب الله» تنكّروا بالزي البرتقالي. سيعترف معلقون وكتَبَة بوجود عونيين من أجل القول إنه وجود أقلّوي وضئيل يكشف حجم التراجع (أو التدهور) المريع الذي أصاب التيار. أما التفسيرات المبنية على هذه الوقائع فجاهزة هي أيضاً: من الطبيعي أن يدفع عون ثمن تهجّمه على هذه الحكومة ذات الشعبية الكاسحة. من المنطقي أن يعاتبه جمهور اقتيد إلى «تفاهم» مع مقاومة استغلته من أجل تخريب لبنان وتدّعي، فوق ذلك، أنها انتصرت. من البديهي ألا يمر من دون بدل الانقلاب من التصدي للجيش السوري إلى العمالة له...
يسأل المرء نفسه، أحياناً، إلى أي حد يمكن لامتهان الذكاء أن يصل؟ إلى أي حد يمكن لإيهام النفس أن يصل؟ إلى أي حد يمكن لليّ عنق الحقيقة أن يصل؟ والجواب في الحالات الثلاث: إلى الحد الذي يحمي الاستئثار بالسلطة. يعني ذلك أنه يفترض بالتيار الوطني أن يكون قد ذاب، أو كاد، حتى يصبح ممكناً رفض التجاوب مع الدعوة إلى حكومة الاتحاد الوطني. أما إذا لم تثبت الأحداث صحة هذه النظرية فالأجدى كسر المرآة بدل التحديق فيها.
لا أحد يعلم، مسبقاً، الدرجة التي سيحتلها مهرجان 15 تشرين الأول على مقياس ريختر للاحتشادات اللبنانية. ولكن ليس من باب المجازفة توقع أن يوم الأحد قد يقدّم برهاناً على أن «التيار» (وحلفاءه) هو القوة السياسية المسيحية الأولى بلا منازع في لبنان. وظيفة المهرجان تأكيد هذا التوقع والبناء عليه مع الاقتراب من نهاية الهدنة الرمضانية.
نجاح المهرجان يفترض به أن يحسم أمرين. الأول، ضمن البيئة المسيحية، وعنوانه أن ثمة مشكلة تمثيل في الحكومة وأن الدعوة إلى توسيعها تلقى هوى شعبياً أصيلاً لم تعبّر عنه تجمعات حزبية سابقة ولا بيانات روحية. الثاني، ضمن الإطار الوطني، وعنوانه أن من غير الجائز الاعتقاد بأن لبنان يقف حصراً أمام احتمال فتنة سنّية ــ شيعية بل هو، يعاني، منذ سنوات، تهميشاً مستمراً لجماعة رئيسية من جماعاته.
لم يعن «اتفاق الطائف»، في ممارسة الذين طبّقوه، إلغاء الأرجحية الطائفية. لقد عنى «طائفية مقلوبة» واستبدل هيمنة بهيمنة. وحصل ذلك نتيجة تلاقٍ سوري ــ لبناني وجاء معبّراً عن ديناميات داخلية، ودافعاً بها نحو أقاصيها. ولعل المعبّر عن ذلك ليس تهميش معارضي الاتفاق آنذاك أو المتمردين عليه وإنما، إيضاً، أولئك الذين انخرطوا و«اعتدلوا» وقبلوا قواعد اللعبة الجديدة.
لم يتغيّر الكثير بعد الانسحاب العسكري السوري من لبنان. لقد استعادت البيئة المسيحية بعض ديناميتها مما زاد من اصطدامها بتوازنات داخلية حاول الجناح المسلم في «14 آذار» تأبيدها. لقد أعيد، في الانتخابات النيابية الماضية وما تلاها، إنتاج ما يمكننا تسميته تجاوزاً «المسألة المسيحية». أعيد إنتاجها في ظل تولّي نُخَب داخلية إدارة الأوضاع بالاستناد إلى «رعاية» غربية مؤكدة.
اللافت أن هناك من يتهم عون بمحاولة استثمار الاستياء لا بل بمحاولة استثارته. ويزعم متذاكون أنه يغادر بذلك «خطابه الوطني» من أجل أن يزاحمهم على الأرض التي لا يحسنون اللعب فوق غيرها. يصبح رد الفعل، لا الفعل، هو التهمة، وهي تهمة يسعى موجّهوها إلى التقليل منها بالزعم أن المتهم فاشل لأنه يحاول، عبثاً، التعبئة ضد طائفيتهم «المستترة».
يصعب التأكيد إذا كان مهرجان الأحد سيحسم في أن التيار هو الأكثر تمثيلاً في البيئة المسيحية. إلا أننا لا نجانب الصواب إذا لاحظنا ما يلي في سياق الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. لقد قاد عون جمهوره ضد «المزاج التاريخي» المعروف عنه، وقاد سعد الحريري جمهوره ضد «المزاج التاريخي» المعروف عنه. ويمكن الاستنتاج من قراءة المعطيات المعلنة أن الأول ليس، بالضرورة، متضرراً أكثر من الثاني.
إذا كانت هذه الملاحظة صحيحة، وهي على الأرجح كذلك، فهذا فأل حسن لسببين على الأقل:
الأول، أن تمركز نفوذ «التيار الوطني الحر» في الجبل حائل دون صفاء طائفي ثنائي ومتقارب. بكلام أكثر وضوحاً، إنه مانع لثنائية درزية ــ مارونية (اشتراكية ــ قواتية) يمكن لتجانسها السياسي الحالي (والمؤقت؟) أن يشجّعها على قدر من التحرر من موجبات علاقاتها الوطنية العامة.
الثاني هو أن «التيار الوطني الحر» يبدو، بين سائر القوى المحلية، الأكثر «لبنانية» أي، بتعبير آخر، الأقل التصاقاً بتحالفات إقليمية ودولية. فإذا كان لبنان، اليوم، يبدو واقفاً على شفير «فتنة مذهبية» فلأن الديناميتين السنّية والشيعية تجمعان، على حيويتهما الداخلية، صلات وثيقة بقوى عربية وإقليمية ودولية. ويمكن القول، في هذا المجال، إن «القوات اللبنانية» شبه ملتحقة بإحدى هاتين الديناميتين فيما «تفاهم» التيار مع الدينامية الأخرى لا يجعله «تابعاً» لها. تكاد تكون العلاقات العونية بالخارج العربي والإقليمي والدولي مقطوعة أو، في أحسن الأحوال، متوترة. وإذا كان ذلك سبباً يزيد من الهامشية السياسية للمسيحيين فإنه، في المقابل، يمنح التيار ميزة القدرة على الدعوة الملحّة إلى «لبننة» الحلول والتسويات وعلى امتلاك موقع يسمح له باقتراح تسويات تضمن المصالح المشروعة للجميع.
هذه الطاقة الافتراضية لـ«التيار» قد لا تكون مستغلة بأفضل شكل ممكن. ولكن ذلك لا يلغي خصوصية الموقع وأهمية الحفاظ عليه.
إن أخذ هذه المعطيات بالاعتبار ضروري لمن يريد أن يساهم في تقديم معالجات للأزمة اللبنانية. وتكفي نظرة سريعة إلى المعنيين بهذه المساهمة، من فرنسا إلى المملكة العربية السعودية، لملاحظة أن أحداً منهم لا يحيط بالعناصر الكاملة للأزمة الداخلية، ولا يملك العلاقات الوثيقة الكافية بأطرافها من أجل أن يوفّر لهم الثقة بأن تدخّله لن يكون انحيازاً لطرف أو تغليباً له على غيره.
إن في بعض الإشارات إلى أهمية العلاج السريع للانقسام المذهبي ومخاطر تفاقمه، إن في بعض هذه الإشارات ما يسبب قلقاً. صحيح أن الانقسام موجود وأن علاجه داهم. ولكن قصر تعريف الأزمة عليه لا يقود إلا إلى مداواة لجرح عن طريق إبقاء «الزغل» في جرح سابق.