جان عزيز
«ذكرت وكالة انباء بيروت، أن متحفاً للأجراس الكنسية سيزاح الستار عنه قريباً في المختارة. وتعود هذه الأجراس ــ التي عدّها وليد جنبلاط مغانم حرب ــ الى كنائس قرى وبلدات مناطق الشوف وعاليه وبعض اقليم الخروب، وقد استولى عليها مسلحو الحزب الجنبلاطي بعد سيطرتهم على هذه المناطق (...) وعلم أن المسؤول في المتحف قد وضّب الأجراس المنهوبة في شكل فني، مدوّناً تواريخ نقلها واسم الكنيسة وشفيعها والبلدة التي نقلت منها». المصدر: الصحف اللبنانية، يومي 27 كانون الأول 1984 و31 منه.
هذه الواقعة المتعلقة بأجراس 258 كنيسة وديراً استبيحت في جبل لبنان، بين ايلول 1983 وأيار 1985، «نبشتها» أوساط مسيحية معارضة، لمناسبة السجال الدائر اليوم بين ممثلي مسيحيي الجبل وبين وليد جنبلاط، مؤكدة أن جوهر المسألة ليس مصير بضعة اطنان من المعادن التي كانت أجراساً ومقدسات وحسب، بل أبعاد ثلاثة، تحدّد وجه لبنان لأعوام آتية.
في البعد الماضي، يقول المعارضون، لا ترمز قضية الأجراس الى فتح صفحات ثأر متجدّد، ولا نكء جراح لم تتبلسم. بل الهدف من مقاربتها هو تكريس قراءة مشتركة للحل التصالحي المنشود. ذلك أن جنبلاط، بين زيارة البطريرك الماروني الى المختارة في 5 آب 2001، وزيارته هو الى بكركي أول من أمس، لم يقل للمسيحيين بعد، كيف أنهى حربه عليهم، وعلى أي أسس أرسى مصالحته معهم، كجماعة سياسية تامة.
وتقول الاوساط نفسها: صحيح أنّ جنبلاط انقلب على موقفه من سوريا، لكنه لم يعلن كلمة واحدة حيال موقفه من حروب الجبل، أو من موقع المسيحيين في لبنان. علماً بأن الكل يدرك أن البندقية السورية كانت وسيلة جنبلاطية، لا هدفاً في حد ذاته، بينما المطلوب للمصالحة، مصارحة بشأن الأهداف والأغراض. فماذا عن قول جنبلاط في الذكرى الاولى لحرب الجبل: «ها قد عدنا يا بشير جنبلاط»؟، وقوله في كفرنبرخ في 16 تشرين الثاني 1983، إن «المعركة ابتدأت منذ ايام بشير الشهابي وهي مستمرة (...) لا يتوهم احد أن المعركة انتهت، المعركة لم تنته بعد، عمرها ليس 5 سنوات، بل 150 سنة»؟.
هذا البعد الآني في ماضي مسألة الأجراس، لم يقفله جنبلاط بعد، ولم يتحدث عنه. وهو بُعد تقاربه الأوساط المسيحية سياسياً ووطنياً، في معزل عن الخلفيات العقيدية والدينية الأخرى. علماً بأن هذه الخلفيات ليست بسيطة، كما تشير الاوساط، مذكّرة بأن ثمة أبحاثاً جامعية أنجزت عن المعاني الانتروبولوجية للسلوك الجنبلاطي في 3 نواح: نزع الاجراس، استعمال حجارة المعابد ونبش القبور...
لكن في الإطار السياسي البحت، إذا كانت «الوسيلة» السورية قد ضمنت لجنبلاط مصادرة التمثيل النيابي المسيحي في الجبل طيلة 13 عاماً، فما معنى الانقلاب الجنبلاطي على سوريا، إذا كان الهدف منه الإبقاء على المصادرة نفسها؟ ولماذا لا يقرن جنبلاط انقلابه هذا، باقتراح ما عن تصوّره لقانون الانتخابات، على سبيل المثال؟
اما في الحاضر، فتتابع الاوساط نفسها، أن السجال الدائر اليوم بين «التيار الوطني الحر» وجنبلاط حول «قضية الاجراس»، لا يمكن عزله عن الواقع القائل بأن الوضع السياسي الراهن في لبنان والمنبثق من قيام «التحالف الرباعي»، ليس إلا ثمرة فكر جنبلاط وعمله. فهو من ترك «14 آذار» بعد 72 ساعة على انعقادها، ليذهب الى «حزب الله» في السياسة، وإلى نبيه بري في «قانون غازي كنعان»، وهو الذي دأب طيلة 9 اشهر، محلياً وإقليمياً ودولياً، على التنظير لفلسفة هذا التحالف. فكان في طهران يوم انسحاب الجيش السوري من لبنان في الاسبوع الأخير من نيسان 2005، وكان حليفه سعد الدين الحريري في واشنطن للمهمة نفسها: طلب فترة سماح لقيام «التحالف الرباعي»، حتى بلور جنبلاط قمة خياره يوم 14 آب 2005 في مؤتمر حزبه، حين اوحى الى الحريري الابن «أن تعلّم من تجربتي في اغتيال الوالد، ولنتصالح مع دمشق على دم الشهيد، ولنقبض الثمن من الداخل»، هكذا فهمت الاوساط المعارضة كلام جنبلاط يومها.
ويبقى البعد الثالث في «قضية الأجراس»، متعلقاً بتطورات الأشهر المقبلة، اذ تعتقد الاوساط نفسها أنه إذا كان الرهان الجنبلاطي على «المصالحة السورية» قد سقط أواخر العام الماضي، نتيجة صدّ دمشق والكلام الكبير والمقارنة بأرييل شارون، فإن رهاناً جنبلاطياً مطابقاً بدأ يتكوّن منذ أسابيع، وعنوانه إقناع الحريري الشاب بالتفاهم مع «حزب الله»، على خلفية اعادة إحياء التحالف نفسه، وبأقلّ ثمن ممكن. وتلاحظ أن هذا الرهان بات شبه معلن في الأداء السياسي والإعلامي، كما في الاتصالات المباشرة وغير المباشرة مع «الحزب» ومع الحريري، من دون أن تعني المبادرة، أن جوابها هو القبول أو التجاوب.
في هذا السياق بالذات، تؤكد الأوساط المعارضة، يُفهم سجال عون ــ جنبلاط. وفي السياق نفسه، وإن على مستوى ادنى، تندرج «منتعة» بيار الجميل الأخيرة في مجلس الوزراء حول التعويضات، وحتى كلام سمير جعجع اليوم عن الاستحقاق الرئاسي. فمواقف مسيحيي 14 آذار هي رسائل الى حلفائهم، اكثر منها الى خصومهم، ومفادها: لقد التحقنا بتحالفكم الرباعي في «النيابية» ضد عون قبل سنة، وهو ما جعلنا نخسر ثلاثة ارباع المسيحيين. فلا تعيدوا تحالفكم نفسه بعد عام في «الرئاسية»، كي لا نخسر وتخسروا الربع الباقي.
اما عون، فلقد اختار عنواناً أوضح للمعركة الفعلية: أعيدوا الأجراس الأصلية.