جوزف سماحة
لا مجازفة في تقديم الفرضيتين الآتيتين:
الأولى، والمؤكدة، أن لبنان متّجه نحو أزمة سياسية. الثانية، والأقل تأكيداً، أن توتيرات أمنية قد تخترق المرحلة الحرجة المقبلة.
الأزمة السياسية واقعة واقعة. عنوانها التوازن في السلطة السياسية. هناك من يريد توسيع الحكومة وهناك من يدعو إلى إسقاط رئيس الجمهورية. هناك من يدعو إلى احترام إرادة الأكثرية وهناك من يدعو إلى انتخابات مبكرة وفق قانون جديد. هناك من يرتب التغيير المنشود وفق أولويات يرفضها فريق ثانٍ مقترحاً أولويات مختلفة تماماً. هناك من يتحدث عن استئثار واحتكار فيلقى رداً بأنه انقلابي ساعٍ إلى الإمساك بمفاصل السلطة كلها. وليس سراً أن قضايا وطنية كبرى وخلافية تقع في خلفية هذه التباينات وتدفع كل معسكر إلى التمسك بوجهة نظره. والمتداول من المعطيات يشير إلى أن الأمور إلى تصاعد وأن كل جبهة تعاني فائض تفاؤل بقدرتها على تحقيق مبتغاها. الأزمة مقبلة.
في موازاة ذلك نشهد قنبلة صوتية من هنا و«إنيرغا» من هناك. ثمة مؤسسات أمنية تُستهدف بتفجيرات تروّع ولا تؤذي حتى الآن. ثم جاء الاعتداء في ساحة رياض الصلح ليرفع التوتر درجة وليستدعي تحركات وقرارات توصلت إلى ضرورة تركيز المعالجات التقنية للثغر الأمنية. هذه التفجيرات قد تستمر. ولا خوف من إطلاق توقّع من هذا النوع إلا الاحتمال الراجح بأن نجد من يخلط بين التحذير والتمني فيعتبر قرع جرس الإنذار إطلاقاً لصفارة الانطلاق.
ستستخدم ذرائع كثيرة في السجال السياسي. سيقال، مثلاً إن الرغبة المعلنة في التغيير تخفي توجهاً لتعطيل المحكمة الدولية، أو لتطويق القرار 1701، أو لإعادة عهد الوصاية، أو لتخريب مؤتمر باريس ــ 3، أو لقطع الطريق على المساعدات العربية وإعلان 2007 عاماً للسياحة العربية. والردود جاهزة على هذه الحجج. فالرغبة في الدفاع عن التوازنات الراهنة أو إدخال تعديل عليها في الاتجاه نفسه، هذه الرغبة هي، في عرف أصحاب الردود، استمرار في التحكم الفئوي، وفي الالتحاق بالخارج، وفي الدفاع عن الفساد والفاسدين، وفي أخذ لبنان إلى حيث لا تريد «الأكثرية الحقيقية» أخذه، إلخ... لا ضرورة، في هذا المجال، للانحياز إلى أي من هذين الطرفين، ويمكن الاكتفاء بذكر أن من حق كل منهما استخدام ما في جعبته من مطالعات حتى لو قاده ذلك إلى قدر «محترم» من الديماغوجيا.
ولكن، في المقابل، ثمة ضرورة لمطالبة ملحّة بإبقاء أي توتير أمني خارج حلبة السجال السياسي الداخلي. والقصد من ذلك أن من غير الجائز لفريق أن يلجأ إلى توتير أو أن يعتبره حجة تدعم وجهة نظره. لن يكون هذا الابتزاز مقبولاً إذا كان القصد منه قمع الرأي أو الرأي الآخر، وإلقاء نوع من التحريم على التباين، وإقامة صلة وصل مباشرة بين الاختلاف في وجهات النظر وبين الجريمة.
نقول ما نقول مدركين أن الأزمة واقعة بين الأكثرية النيابية والحكومية بتركيبتها المعروفة وبين القوى المعترضة عليها والمتشكلة من روافد عديدة بينها «حزب الله»، و«التيار الوطني الحر»، و«المردة»، و«التجمع الوطني»... والإشارة إلى هذه القوى مهمة من أجل استباق ما قد يحصل من توجيه اتهامات تعقد صلة بين التأزيم السياسي والتأزيم الأمني.
إلا أن الحقيقة تقضي منا التوقف عند ملاحظة لا بد منها وهي أن في لبنان سلطة وأنها المسؤولة، بالدرجة الأولى، عن الوضع. وفي الاعتقاد، نتيجة ما هو متوقع، أن على هذه السلطة الإقدام على خطوتين:
الأولى، هي الدخول في سن الرشد. ويعني ذلك مغادرة عقلية المعارضة والبدء بتحمل المسؤولية. ليس من حق الوزير أحمد فتفت أن يعتب إذا لامه أحد على فلتان أمني ما. فاللوم يعني أنه مسؤول ولا يعني، إطلاقاً، أنه مرتكب. وكل تفسير آخر يراد له، فوق تجهيل الفاعل الحقيقي، تجهيل المرجعية التي تتحمل عبء ما يحصل. فعندما يقول أركان في السلطة إنهم يتوقعون إخلالاً بالأمن يُستخدم لإطاحة الحكومة يصبح من حق المواطنين مطالبتهم بالكشف عن معلوماتهم مسبقاً واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. إن لم يفعلوا ذلك يكونوا يستخدمون وسائل غير مشروعة لحجب أي اعتراض على سياستهم ولتعطيل الحياة الديموقراطية الحقيقية. أما إذا كان المسؤولون لا يعرفون الجهات المشتبه بها فمن واجبهم البحث والتقصي وعزل هذه المهمة عن أن تكون سلاحاً سياسياً في يدهم يشهرونه في وجه من يطالب بالتغيير.
هذه هي الخطوة الأولى. أما الثانية فهي أنه بات مطلوباً التعاطي بجدية مع المسألة الأمنية برمتها. لم يعد جائزاً العبث بمؤسسات. ولم يعد جائزاً النقل الآلي لخلافات سياسية ــ طائفية إلى داخل الأجهزة. ولم يعد جائزاً التورط في أحداث مثل الرمل العالي (بالمناسبة أين أصبح التحقيق؟). إن المطلوب، في المقابل، التشاور مع القوى الجدية في المعارضة وإيجاد صيغة لإشراكها، وإزالة أي شبهة توحي أن الأجهزة الأمنية امتداد لفريق.
ربما كان واجباً، هنا، التأمل في الحالة العراقية بعض الشيء. ففي ذلك البلد ثمة إجماع على الجزم بأن القوى التابعة لوزارة الداخلية هي جزء من المشكلة الأمنية وليست جزءاً من الحل، علماً بأن المشكلة الأمنية هي اسم ملطّف لبدايات الحرب الأهلية. إن الخلل في إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية ينأى بعيداً بهذه المؤسسات عن أن تكون تابعة لدولة تقف على مسافات متساوية من مواطنيها. وثمة مؤشرات في لبنان توحي أن هذا ما هو حاصل في بعض المواقع.
قد نكون مواجهين، في المستقبل القريب، بالمعضلة الآتية: انقسام سياسي صاخب يجب تحويله إلى لحظة إجماع في ما يخص الموقف من أي إخلال بالأمن. نكسب بذلك حيوية ديموقراطية واستقراراً أمنياً. والمدخل إلى مواجهة ناجحة لهذه المعضلة هو الاعتراف الرسمي، من جانب السلطة، بأن القوى الجدية في المعارضة متضررة من أي اقتحام تخريبي لما تعلنه عن عزمها على استخدام الوسائل الدستورية لتغليب وجهة نظرها.