فراس زبيبانتهت الحرب في ساعة ثامنة صباحية، فجأة، كما ينتهي بصورة واحدة فيلم سينمائي. انتهت الحرب وبقيت فينا عاداتها، فالحروب تترك في أهلها ما لا تقدر نهاية الحروب على إنهائه. هكذا «ضبّت» أمّي شنطة الملجأ. لم تكن مسرعة، فيما كانت تضع الأغراض فيها، ولم تكن منفعلة أو خائفة. صارت تأخذ وقتها مفكّرة في كل ما قد يلزمنا إذا نزلنا مسرعين إلى الملجأ.
ربّما لم يكن هناك ما ينذر بنزولنا القريب إلى أسفل المبنى، وربما لم تكن والدتي متأكدة من أنّنا سنفعل، ولكنّها عرفت فقط أنّنا، إذا اضطررنا إلى النزول، فلن يكون لدينا وقت لأخذ الأغراض اللازمة.



ليس الخوف هو ما جعلها تبحث عن ضوء البطاريات الصغير الذي نسيت أين وضعته لعدم استعمالها إيّاه منذ بعض الوقت. ليس الخوف أيضاً هو ما جعل جارتنا الأرملة تعبّئ كلّ الزجاجات بالمياه، وتعبّئ خزان منزلها، قبل أن تشقّ شبابيك شقتها الصغيرة كلها، وتدخل إلى النوم.
اللبنانيون باتوا يعرفون الحروب أكثر ممّا يخافونها. هم لا يستطيعون أن "يهربوا" كما فعل السيّاح الأجانب حين بدأت الحرب اللبنانية الجديدة. هم يبقون. يصبحون شعب الحرب وناسها. وتعود إليهم غريزة الحرب، ومنطق الحرب، وردود أفعالها.
ليس خوفاً، ذاك الشيء الذي جعلنا نبدّل تصرّفاتنا العاديّة بعادات الحرب، بهذه السرعة. إنّه غريزة نملكها فينا، في داخلنا، رغماً عنّا. غريزة تطفو فينا فجأة، وتجعلنا نتكلّم، ونفكّر، في شكل مختلف، ولو كنّا نخال أنّها زالت منّا مع زوال الحرب القديمة. كما تعود عادة السباحة الى شخص تخلّى عنها منذ سنوات، بمجرّد أن ينزل إلى الماء، هكذا تعود الحرب، وعاداتها الكثيرة، إلى الناس الذين يعرفون الحروب ويعرفون أجواءها. سبق بعض اللبنانيين الحرب الأخيرة إلى حياة الحروب. نزل أهالي بيروت إلى محطات الوقود، فأفرغوها من وقودها. في المحالّ التجارية، هي الأشياء نفسها التي تدافع لشرائها المواطنون. الشموع والمياه والطعام والخبز... هكذا، في ساعات قليلة، تحوّلت اهتمامات الناس من كماليّات الحياة إلى ضروريّاتها. سبق مواطنو بيروت الحرب إلى حياتها التي يعرفونها. الشباب في الأحياء البيروتية عادوا الى لعب الورق منذ اليوم الأوّل لانقطاع التيار الكهربائي. هؤلاء كانوا يشاهدون التلفاز كلّ يوم، منذ سنوات، وهم كانوا يشاهدونه قبل انقطاع التيار بيوم.
نواطير المباني البيروتية التي فيها ملاجئ تحت الأرض نزلوا إليها لينظّفوها ويحضّروها لاستقبال الأهالي. أفرغوها من أشياء السلم. وقتلوا جرذان السلم، وصراصيره. هيّأوا الملاجئ لاستقبال المواطنين، وبقيت الملاجئ فارغة من مواطنيها.
اللبنانيون كأنّهم يكملون الحرب اللبنانية القديمة، وليسوا كمن يبدأ حرباً جديدة. عادت الحرب إلى لبنان ببساطة عودة الأشياء إلى مجراها، أو عودة المرء إلى رشده. عادت، ولم يعد يكفي أن نطفئ التلفاز حتى تنتهي الحروب، وتزول مشاهدها...
تقرّب الحرب الناس بعضهم من بعض، فتجعل الغرباء يتحادثون في الشارع، ويتساءلون معاً عن المستقبل. لا يعود المستقبل، في أيّام الحرب، شيئاً شخصياً، أو فردياً. فبدل أن يكون لكلّ مستقبله، كما في أيّام السلم والحياة الطبيعية، يصبح المستقبل الواحد، هو نفسه، للجميع.
عادت القنوات التلفزيونية تعرض أغاني وطنية بين البرامج، بدل أغاني هيفا وهبي ونانسي عجرم وغيرهما. عادت أصوات جوليا بطرس ومارسيل خليفة وفيروز تصدح بالكلمات الوطنية، وعادت ترافقها الطبول. أغان قديمة، لثورة وحرب قديمتين. هكذا عاد اللبنانيون إلى حال الحرب الجديدة، على أطلال حرب أخرى، وعلى ذكراها، وعاداتها. ومثلما لا تبدو الأغنيات الوطنية القديمة غريبة في وطن اليوم، هكذا، لا يشعر اللبنانيون بغربة في الحرب اللبنانية الجديدة.
يستمع الشاب الذي لا يذكر من الحرب اللبنانية إلا أيّام طفولته السعيدة إلى النشرات الإخبارية، ويتساءل عمّا كان سيشعر به لو وصلت الحرب ودويّها إلى بيروت. هل كان سيخاف منها، أم كانت لتذكّره بطفولة فقدها، ولا ينفكّ يشتاق إليها؟