الجنوب ـــ كامل جابرالتحف الشهداء قبلة موتهم المستلب، وغادروا أرض «الأمانة» في رمل صور، التي احتضنتهم ضحايا قتل حتمي فرضته آلة الرعب والدمار والقتل الصهيونية، لأنهم تمسكوا بمأثرة الصمود في قرى نبتوا من ترابها وترعرعوا على سخائها، وتنشقوا عطر حبقها، ولم يغادروها إلا أشلاء. إنه عهد أبناء الجنوب على الصمود والتصدي حتى الشهادة.فرعت القبور الجماعية في صور رملها من فوق نعوش جثامين الشهداء البالغين 139، بعدما حنّت عليهم أياماً وليالي، راقدين في حضنها، في أعقاب ازدحام المجازر المتنقلة من العدو، وتراكم الأعداد والأسماء. فكانت مبادرة بلدية صور ومستشفاها الحكومي، بأن يكونوا وديعة أرض المدينة التي عانت المجازر والعدوان، وباركت ذويهم وأقاربهم، ضيوفاً نازحين، ريثما تنتهي دوامة القتل. ودّعت صور التي سجلت ملحمة الروعة بصمودها، والتألق برغم حصارها القاتل، ضيوفها المغادرين نحو قانا الحزينة المكلومة في كل عدوان (29 شهيداً)، وزبقين (16 شهيداً) والطيري (10 شهداء) وحاريص (12 شهيداً)، فيما ظل شهداء مروحين في عهدة المدينة، بانتظار حرية البلدة من رجس الاحتلال، القرية التي دفعت ثمن مجزرة همجية ذهب ضحيتها ما لا يقل عن 21 شهيداً، جلّهم من الأطفال، تشتتوا أشلاء تحت سيل الصواريخ التي لاحقتهم في سيارتهم المكشوفة، بينما كانوا يهربون من غدرها في وعر الحقول.
وباتجاه أربعين قرية وبلدة في مناطق صور وبنت جبيل، غادرت جثامين 131 شهيداً آخرين، برادات المستشفيات و«الخضرة»، إلى المثوى الأخير، بعدما سلكت الطرقات في مواكب العودة، هي الأخرى، نحو القرى المجروحة من القتل والدمار، ليشيَّع كل في مسقط رأسه. وكذلك فعلت صريفا، التي احتضنت شهداءها، من مختلف الملل الحزبية والاجتماعية والانسانية، تحت ركام البيوت التي صمدوا فيها، حتى انتهاء العدوان. 22 شهيداً، جلّهم من الشباب.
قانا الثانية
في قانا، تبدلت أسماء الشهداء، وظلت المجزرة هي التي تواكب الأحبة والأطفال الذين اصطادهم الذئب نياماً، على وقع الحزن الذي لا يندمل. ما أشبه آب 2006 بأواخر نيسان 1996! فاصل من عشر سنين، يعود ليوحّد المشيعين على جلجلة الشهادة نحو المقابر الجماعية، وسط شعور باليتم، لم يتبدد بعد من البلدة التي فجعت بعائلات بأكملها، أو بأطفالها كلهم. خلف الموكب المحفوف بتقاطر أبناء البلدة المكلومة كذلك من الدمار، شيع الأهالي الشهداء، ومعهم مسؤول حزب الله في الجنوب الشيخ نبيل قاووق الذي ألقى كلمة توجه فيها الى «من يعتبرون أميركا صديقة للبنان وقدموا لسفيرها في الامم المتحدة جون بولتون درع الارز بالقول: إن الادارة الاميركية هي شريكة لإسرائيل في قتل اطفالنا وأهلنا في الجنوب وفي لبنان». وقال: «اننا نودّع الشهداء بأقواس النصر وكان شعبنا يستحق الحياة. يصنع الحياة بفخر، بسلاح وبدم. إننا نودّع الشهداء بأعراس النصر، وهم يدفنون موتاهم ويزدادون هزيمة. وستسقط كل الإرادات العسكرية والسياسية في اسرائيل».
اضاف: «أرادوا ألا نجتمع على نصر فاجتمعنا عليه. ارتكبوا المجازر ظنّاً منهم أنها تصنع لنا هزيمة، لكنها ما صنعت إلا مزيداً من لهيب المعركة والنصر». وختم: «أيتها الإدارة الأميركية، إنكم شركاء في ارتكاب المجازر، وفي قتلنا وفي تدمير بلدنا، ولا صداقة بيننا وبينكم، وليس هناك لبناني شريف يؤمن بصداقة مع اميركا».
وفي مقبرة جماعية، ووري الشهداء الأطفال والعجّز والنسوة في الحي الذي قضوا فيه، في محلة «الخريبة» في قانا.
صريفا
وفي موكب حاشد مهيب، زفّت صريفا نحو 22 شهيداً، كلهم من الشباب، بينهم سيدة مجهولة الهوية، وعشرة من حزب الله وثمانية من الحزب الشيوعي اللبناني وتسعة من حركة أمل، الذين دمرت طائرات العدو، حيّاً بأكمله، عليهم في بيوتهم، يوم الاربعاء بتاريخ 19 تموز، فظلّوا تحت أنقاضها ثلاثين يوماً، قبل انتشالهم، أشلاء وجثثاً متحلّلة.
شارك في التشييع وزير التربية الوطنية خالد قباني وعدد من نواب حركة أمل ومن مسؤولي حزب الله والحزب الشيوعي اللبناني. ثم ووريت الجثامين في جبانة البلدة.