فراس زبيب
لا نعرف شيئاً عن طوني إيوايوزا. لا نعرف شيئاً عن حياته أو عن ماضيه. لا نعرف إن كان سعيداً بها، حياته، أو إن كان متزوّجاً، أو له أولاد. لا نعرف كيف كان شكله، أو كيف كان يلبس، أو ماذا يحبّ أن يأكل. لا نعرف أيضاً بماذا كان يفكّر. لم نسمع صوته، ولم نرَه يلقي خطابات، مصرّحاً بأفكاره وبمشاعره تجاه الأشياء.
لم يقف طوني إيوايوزا أمام كاميرات الصحافيين، ولم تتدافع نحوه الميكروفونات كأنّها تريد أن تنزع منه كلاماً أكثر من الذي يريد قوله. لم تتحدّث عنه نشرات الأخبار، لتنقل إلينا استنكاره، أو إدانته لما يحصل في الجنوب، أو لتؤكّد لنا إصراره على مساعدة الجنوبيين، وعلى انتشال جثثهم من تحت الأنقاض، وتوزيع المعونات عليهم.
لا نعـــرف شيـــئاً عن طــــــوني إيـــــــوايــــوزا. جاء إلى لبنان بصمت. جاء مع الفريق الياباني الذي حضر إلى المنطقة في مهمّات إنسانية. جاء ليساعد أهل الجنوب اللبناني، وليشهد، رغماً عنه ربّما، على ما فعلت بهم وبقراهم الحرب الأخيرة.
دخل بصمت إلى الجنوب، وعمل فيه بصمت. رأى الدمار، ورأى الموت، ورأى عودة النازحين الجنوبيين إلى جنوبهم المدمّر. رأى بيوتاً سُوّيت بالأرض، وأخرى كأنّ الأرض ابتلعتها. رأى قرى لم تعد تشبه القرى، ورأى قططاً ميتة وكلاباً شاردة وحماماً أصيب بشظايا الصواريخ وهو يطير في الهواء.
نزع بيديه الأنقاض عن جثث الأطفال الجنوبيّين، وأعطى للأحياء منهم أكلاً وشرباً وابتسامات أرادها مشجّعة.
مرّ طوني على طرقات الجنوب المهدّمة، وجسورها الواقعة، وسلك طرقات فرعية، واحتال على دمار الطرقات بتجنّبه، وهزمه بالوصول إلى ما بعده.
خاف طوني من القصف ومن أصوات الطائرات ودويّ الصواريخ حين كانت تلمس سطوح المنازل وتنفجر. تساءل إن كان سيموت هنا، في لبنان، وأخفى خوفه من الحرب حين كان يتحدّث إلى أقربائه وأصدقائه في اليابان على الهاتف.
عاش طوني في لبنان أيّاماً صعبة، وشهد على وحشية الحروب، وعلى قسوتها. وقف على مقربة من بيت مهدّم، أو من قرية مهدّمة، وبدت على وجهه ملامح الحزن والاستغراب، والغضب ربما. قال لزميله في البعثة الإنسانية، عامل الإغاثة الياباني مثله: إنّ هذا الدمار ليس إنسانياً.
شمّ رائحة الموت التي لا يعرفها الكثيرون. رائحة الجثث التي بقيت أيّاماً وأيّاماً تحت الأنقاض، والتي بحث عن مصدرها نازعاً الأنقاض بيديه، تعِباً، حزيناً، ومصرّاً في آن.
حاول طوني إيوايوزا أن يتعلّم بضع كلمات عربية، ليحدّث بها اللبنانيين الذين التقاهم. تعلّم كلمة «مرحبا»، ربّما، أو «السلام عليكم». ربّما صار يعرف كيف تلفظ كلمة «مي»، أو كلمة «أكل».
جال في الجنوب مع غيره من رجال الإغاثة اليابانيين، وتعرّف إلى الجنوب عبر دماره. صار يتخيّل المشهد الجنوبي قبل أن تدمّره الآلة العسكرية الإسرائيلية. صار يقرأ في تفاصيل البيوت التي تلاشت بين أنقاضها قصص أهل هذه البيوت، وعاداتهم.
ربّما شعر بأنّه لا يقدر على شيء. بأنّه عاجز أمام هذا القدر من الدمار، وبأنّ الإنسان الذي يسبّب دماراً كهذا لا يشبهه. تساءل طوني أيضاً عن سبب مجيئه. لماذا يساعد الناس بينما غيره يقتلهم ويدمّر بيوتهم ومحاصيل مواسمهم الزراعية.
سأل نفسه عن معنى المساعدة، والتطوّع، والإغاثة والمحبّة. سأل نفسه عن معنى الحياة، وعن صعوبتها، وعن الموت وسهولته...
لا نعرف شيئاً عن طوني إيوايوزا. نعرف فقط ما ذُكر في بعض الصحف اللبنانية، في خبر لا يتعدّى أربعة أسطر. هو من مواليد عام 1953، جاء الى لبنان مع فريق الاغاثة الياباني. اصيب بانهيار عصبي إثر رؤيته لمشاهد الدمار والعنف في جنوب لبنان. فنقل الى مستشفى جبل عامل في مدينة صور ليتلقّى العلاج، وألقى بنفسه من الطابق الثالث في المستشفى، ومات على الفور.
لا نعرف شيئاً عن طوني الياباني. كلّ ما ذكر في هذه المقالة تَكَهُّن قد لا يكون صحيحاً. لم يُرد أحد من السفارة إطلاعنا على أي تفصيل عنه، أو عن بعثته. كذلك كان الأمر لدى تحدّثنا مع طبيبه في مستشفى جبل عامل.
سننسى اسم طوني إيوايوزا، الذي تقول القصّة إنه مات لأجلنا، وإنه مات حزيناً من حزننا.