إبراهيم الأمين
الله أعلم ما إذا كان الإسرائيليون قد عرفوا الآن كيف تمّت عملية الأسر الأخيرة في 12 تموز الماضي. صحيح أن الجيش والاستخبارات وكل الدولة انشغلوا في خوض الحرب الشاملة. لكن هناك فريقاً آخر كان يتابع باهتمام ما حصل، وكيف نجح المقاومون في تجاوز الشريط الشائك والتقدم بضعة أمتار ونصب مكمن صاعق خلال تعطيل القدرة العملياتية لقوة كانت تتحرك بشكل عادي ثم وجدت نفسها ضمن دائرة من النار قبل أن يحصل أمر غريب. وخلال دقائق قليلة كان كل شيء قد انتهى: أُسر من أسر وقُتل من قتل وحصل ما حصل.
وبعد اندلاع المعارك فهم الإسرائيليون ما الذي واجه الدبابة التي تقدمت في اتجاه الأراضي اللبنانية بغية البحث عن الجنود. هم يعرفون بالضبط أنه لا مجال لاستعادة السيطرة قبل مضي وقت طويل. نصف ساعة أو أكثر حتى يدركوا حقيقة ما حصل. ومرة جديدة تفشل كل الإجراءات الوقائية. لا وسائل الاتصال كافية لإعطاء الإشارة مباشرة، ولا القدرة على التحكم كافية لوصل من وقع المكمن بآخرين يقدرون على إحباط العملية. وعندما جاء «المنقذون» كان الأسرى في خبر كان. والتجارب التي مرت منذ سنين طويلة جعلت الجيش وقيادته وجنوده يعرفون أن من يقع في المكمن فعليه التصرف بسرعة لأنه أمام خيار من اثنين: الموت أو الأسر.
وبواقعية شديدة، يقول القادة العسكريون لجنودهم إنه لا مجال للتحايل على الوقائع، وإنه عليهم أخذ كل شيء في الاعتبار وممنوع إهمال أي عنصر بشري أو غير بشري، لأن حزب الله تعلّم أمراً أساسياً وهو أنه متى امتلك عنصر المباغتة نجح في عمله. وهو يعدّ لنفسه الخطط الكافية لإنجاز مهمة الاحتفاظ بالأسرى وهي المهمة الأخطر من مهمة الأسر في ذاتها.
الجنود الإسرائيليون أنفسهم يعرفون أن الأمر لا يتعلق بعملية عادية. قبل «الوعد الصادق» كانوا يعانون أعراض «الوهم المتبدد». هناك في غزة لم يكن أحد يتصوّر أنه يمكن القيام بعملية أسر ناجحة. والصورة النمطية عن هذا النوع من المواجهات تقول إنها قابلة للنجاح خارج فلسطين، وإن هناك حاجات لوجستية وتقنية تمنع تحقيقها في فلسطين. كذلك دلّت التجارب على أن محاولات الأسر انتهت بقتل الجنود والتخلّص منهم في وقت لاحق.
لكن القرار الذي اتخذته حركة حماس انطلق من ضرورة تــــــوفير كل عنـــــاصر النجاح: كيفية الوصول إلى الهدف وكيفية تنفيذ العملية بالسرعة المطلوبة، والأهم من كل ذلك كيفية تدبّر أمر الأسير بعد اعتقاله. وهي مهمة شاقة تتطلّب الكثير من الخطوات: ضمان بقائه على قيد الحياة مع ما يتطلّب ذلك من تجهيزات طبية لإسعافه إذا كان مصاباً ثم توفير المكان الآمن الذي سيكون فيه من دون لفت انتباه أحد، وكيفية حصر أمر أسره والاحتفاظ به في أصغر دائرة من الدوائر العسكرية المعنية، وكيفية تدبّر التواصل الذي يخص وضعه من جهة والتفاوض عليه من جهة ثانية. كذلك العمل على قطع الاتصال نهائياً بمن يتولّى مسؤوليته والاحتفاظ بخيط يجب ألا يكون مرئياً ولا في لحظة. وكل هذه المهمة تستند إلى تدبير احترازي يقوم على قاعدة واحدة: يجب أن يلتفت العدو مباشرة أو بواسطة آخرين إلى أي حركة تتعلّق بملف الأسير.
حتى اللحظة نجحت حماس في الأمر وهو الموضوع الذي يقلق الإسرائيليين ويشغل بال آخرين من داخل القوى الفلسطينية ومن قوى عربية تعتبر نفسها موجودة في قلب الحياة الفلسطينية. لذلك فإن الجهد المركزي الآن من جانب الاستخبارات الإسرائيلية ومن يتعاون معها من أجهزة فلسطينية أو عربية ينحصر في تعقّب الحركة التي قد تقود إلى مكان وجود الأسير، بغية القيام بعملية أمنية لإنقاذه حتى لو أدى ذلك إلى قتله.
وبين «الوهم المتبدد» و «الوعد الصادق» الكثير من عناصر الشبه. إسرائيل نفسها تعرف أنها أمام نموذج واحد للمقاومة، وأن حرصها على الفصل بين العمليتين لا يلغي ترابط الهدف المشترك ولا يلغي القدرة العالية للتنسيق بين حماس وحزب الله على تحقيق أفضل النتائج، أي إطلاق نحو عشرة آلاف معتقل في السجون الإسرائيلية بينهم بضعة لبنانيين وعشرات العرب والبقية من الفلسطينيين. وهو أمر بات الآن جوهر المرحلة الثانية التي تعني المفاوضات.
كما في غزة كانت الحال في لبنان. تل أبيب ترفض مبدأ التفاوض، وتعتبر أنها قادرة على استعادة أسراها بالضغط. جرّبت حظها في المكانين من دون نتيجة، وهي الآن تتجه صوب الخيار المر المتصل بالمفاوضات غير المباشرة.
وحتى اللحظة لم تمنح إسرائيل أي طرف خارجي تفويضاً كاملاً للقيام بهذه المهمة. في اتجاه حماس تحركت عواصم غربية وعربية كثيرة. وكان الواضح من تفاصيل المحادثات أن أي طرف من هؤلاء لا يملك تفويضاً مطلقاً بل إن قيادة حماس تدرك عدم جدية العدو من خلال هذه الفوضى المقصودة، ومن خلال محاولة إسرائيل وضع قواعد خاصة لهذه العملية ولا سيما عبر القول إن أي اتصالات (وليس مفاوضات) إنما تقوم على قاعدة أنه لن يكون هناك تبادل بالمعنى المتعارف عليه، وهو الأمر الذي تولّى شرحه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ومعه مصر والأردن وحتى تركيا، والذي يركّز على أن ثمة «فرصة» للحصول على ضمانات من إسرائيل بأن تطلق عدداً من المعتقلين ولكن في توقيت لا يتزامن مع إطـــلاق الجندي. وهو الأمر الذي رفضته حماس ولا تزال ترفضه رفضاً مطــتلقاً.
«لقد أظهر شعبنا أنه قادر على تحمّل أعباء معركة من هذا النوع، ويصعب على أحد في فلسطين إقناع الناس بالتخلّي عن الأسير من دون الحصول على حرية آلاف المعتقلين. إن قضية الأسرى هي قضية مركزية في قلب الحياة السياسية الفلسطينية وهناك أكثر من مئة ألف شخص يعنيهم الأمر، وبالتالي لا مجال لأي تنازل، وليس أمام إسرائيل سوى القبول بمبدأ التفاوض غير المباشر والتبادل المتزامن أيضاً». بهذه العبارات يلخّص رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل الموقف.
أما في لبنان فالأمر أسهل بكثير. وقد سمع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان كلاماً بسيطاً مفاده: «تذكر ما قاله زعيم حزب الله بعد ساعات على عملية الأسر، وإن حريتهما ممكنة فقط عبر تفاوض غير مباشر وتبادل، وليس هناك من وسيلة أخرى مهما اشتدت الضغوط ومهما طال الزمن».