13 عاماً مرّت على بدء قصف قوات حلف شمال الاطلسي (ناتو) ليوغوسلافيا في عملية عسكرية سميت بـ «عملية ملاك الرحمة». وكانت الذريعة المعلنة آنذاك هي إجبار الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش على وقف «المجازر بحق الالبان» التي حسمت القوى الغربية أنه ارتكبها. وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن، لا تزال تداعيات تلك الحرب جلية. انهارت يوغوسلافيا وانقسمت إلى عدة دول مستقلة، ثم كان إعلان الاستقلال الأحادي الجانب من قبل ألبان كوسوفو. وهو إستقلال دعمه عدد من القوى الغربية التي شاركت في عمليات الناتو عام 1999 ورفضته بلغراد بصورة قاطعة. وتوسع نشاط حلف الناتو بصورة دلّت الى أن هدف العملية العسكرية تجاوز ما تم الإعلان عنه. وما حدث خلال عمليات الناتو التي استمرت 78 يوماً لا يزال محل نقاش وبحث، إذ أن هناك شبهات باستخدام قوات حلف الأطلسي أسلحة محرّمة دوليا أصابت عدداً من المواطنين بأمراض تنتج عادة عن استخدام اليورانيوم والأسلحة الكيميائية.
استدعي «الشاهد» الألباني شكري بويا قائد جيش تحرير كوسوفو، المدعوم من حلف شمال الاطلسي (ناتو)، الى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي مطلع كانون الاول 2005. سأله الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش عن أنواع الاسلحة المستخدمة في منطقة راتشاك اثناء حرب كوسوفو التي وقعت بين عامي 1998 و1999، فأوضح أنها راوحت بين أسلحة خفيفة وأسلحة متوسطة وثقيلة. يذكر أن الاعلام الغربي والاميركي كان قد ادعى وقوع مجزرة بحقّ «مدنيين» في راتشاك واستند الى ذلك من بين امور أخرى، لشنّ هجوم عسكري واسع النطاق تحت راية حلف شمال الاطلسي مستهدفاً الصرب بقيادة ميلوسيفيتش.

■ ميلوسيفيتش: «هذه الافادة (بوجود أسلحة خفيفة اضافة الى أسلحة متوسطة وثقيلة) ترضيني لأن الشاهد بيلي ايلال (قيادي ألباني في جيش تحرير كوسوفو) كان قد أفاد (أمام المحكمة الدولية في وقت سابق) بأن الاسلحة التي كانت بيد الالبان في راتشاك اقتصرت على أسلحة الصيد. سؤالي التالي هو: أنت قلت إنه كان لديك 47 مقاتلاً في راتشاك. اليس كذلك؟
«الشاهد» شكري بويا: نعم هذا صحيح. كان هناك 47 عسكرياً في مواقعهم بالقرب من راتشاك.
القاضي ماي (متوجهاً الى ميلوسيفيتش): هل تريد أن تقول إن الاشخاص الذين قتلوا في راتشاك كانوا جنوداً في جيش تحرير كوسوفو؟
ميلوسيفيتش: حسناً هم يقولون ذلك، فأحدهم يسميهم جنوداً والآخر يسميهم مدنيين.
القاضي ماي: اذا كان هذا اقتراحك فيجب أن توضحه للشاهد. العشرون مدنياً على الاقل كانوا بالواقع جنوداً في جيش تحرير كوسوفو... هل هذا ما تقوله سيد ميلوسيفيتش؟

■ ميلوسيفيتش: اريد أن اعود أولاً الى التقرير الذي استند اليه الجانب الآخر (الادعاء) وهو تقرير الشرطة اليوغوسلافية المرفوع الى قيادتها. يرد في التقرير حرفياً: في الساعة السادسة والنصف في محيط بلدة راتشاك كان هناك اعضاء من المجموعات الارهابية الالبانية. أطلقوا النار من أسلحة اوتوماتيكية ومن قاذفات قنابل، وعندما ردّت الشرطة تراجع الارهابيون الى بلدة راتشاك وتابعوا اطلاق النار من هناك. وتمت تصفية هؤلاء الارهابيين كخيار أخير للشرطة. هل تؤكدون استخدام قاذفات قنابل ضدّ الشرطة؟
شكري بويا: نعم استخدمناها.

■ ميلوسيفيتش: استخدمتم اسلحة بعيار 12.7 ملم اضافة طبعاً الى أسلحة خفيفة.
القاضي ماي: لحظة. (متوجهاً الى شكري بويا) هل صحيح إنكم استخدمتم كذلك المورتر (مدفعية هاون)؟
شكري بويا: أولاً دعني اوضح بأن 41 مدنياً قتلوا في راتشاك وأحدهم... مصير أحدهم ما زال مجهولاً...
ميلوسيفيتش: مـ ...
القاضي ماي: لحظة. هذا التقرير صاغته الشرطة وكان قد طرح هنا لمجرّد التعليق عليه، وأنت (متوجهاً الى ميلوسيفيتش) سألت عن المصادر التي تتعلق بالاسلحة التي قيل انها استخدمت.
شكري بويا: استُخدم قاذف قنابل عيار 500 مم.
ميلوسيفيتش: استُخدمت اسلحة ثقيلة ومورتر بوجه الشرطة التي كانت بطريقها لتوقيف ارهابيين. ويذكر التقرير انه تمت تصفيتهم...
القاضي ماي: هذا كله مجرّد نقاش ومضيعة للوقت. ماذا تريد أن تسأل هذا الشاهد، اذا كانت لديك أسئلة اضافية؟
ميلوسيفيتش: هذا التقرير الرسمي (تقرير الشرطة الصربية) ابرزه الفريق الآخر وليس أنا، ويقول انه لم يقتل أي مدني في هذه الحادثة. وكانت الشرطة قد وصلتها أوامر بعدم اطلاق النار اذا كان هناك مدنيون معرّضين للخطر. يذكر التقرير ان اي مدني لم يقتل وانا اكرر ذلك.

■ القاضي ماي: نعم يمكننا قراءة ذلك. يمكننا قراءة ذلك. لكن هل في التقرير كلمة صادقة؟
شكري بويا: هذا التقرير مفبرك من قبل الشرطة التي جمعته مع باقي التقارير بهدف تشويه الحقيقة عبر الحسم بأن مدنياً لم يقتل.
القاضي ماي (متوجهاً الى ميلوسيفيتش): ما يقوله هو أن هذا التقرير مفبرك. سننتقل الآن الى شأن آخر».

كذب وتزوير القوى الغربية باسم المحكمة الدولية لم يتوقف عند هذا الحدّ بل تجاوزه ليشمل ضغوطات لمنع نشر تقرير علمي وضعه فريق من الخبراء الفنلنديين أثبتوا عدم صحة وقوع مجزرة بحق مدنيين في راتشاك بعد اجرائهم مسحاً شاملاً للمكان وتشريحاً لجثث القتلى. وأعلنت الخبيرة الجنائية الفنلندية هيلينا رينتا في 16 تشرين الاول 2008 (صحيفة «هيلسينغين سانومات» الفنلندية) أنها تعرّضت لضغوطات من قبل وزارة خارجية بلادها ورئيس الفريق الخاص بكوسوفو في المنظمة الاوروبية للتعاون الأمني ويليام واكر لتعديل التقرير بحيث يتمّ التركيز على ارتكاب الصرب مجزرة بحق مدنيين. لكن رينتا رفضت ادخال التعديلات المطلوبة ما أخّر صدور التقرير الفنلندي الى ما بعد وفاة ميلوسيفيتش في 11 آذار 2006.



الموت في عهدة المحكمة

لم يكن الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش الذي اتهمته المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الانسانية، المتهم الوحيد الذي يموت في ظروف غامضة في السجن قبل صدور الحكم بحقه. فقد سبق موته في 11 آذار 2006، موت المتهم سلافكو دوكمانوفيتش في 29 حزيران 1998، وقيل يومها إنه انتحر بشنق نفسه بواسطة ربطة عنق (كرافات).
أما المتهم ميلان كوفاتشيفيتش فمات يوم 1 آب 1998 خلال وجوده في السجن نفسه حيث مات ميلوسيفيتش ودوكمانوفيتش، أي سجن سخيفنينغن الذي خصص جناح فيه لموقوفي المحاكم الدولية ومنها محكمة يوغوسلافيا والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان والمحكمة الجنائية الدولية لسييراليون.
في 5 آذار 2006، ستة أيام قبل وفاة ميلوسيفيتش، مات القائد الصربي ميلان بابيتش، الموقوف في السجن نفسه. كما مات المتهم راسيم ديليتش يوم 29 حزيران 2010 في ظروف غامضة قبيل انتهاء حكمه بالسجن لمدة ثلاث سنوات صدر بحقه في 15 ايلول 2008. ومات دوردي دوكيتش في 18 ايار 1996 ومحمد ألاجيتش في 7 آذار 2003 ومومير تاليتش في 28 ايار 2003 قبل صدور الأحكام عن قضاة المحكمة الدولية بحق كل منهم. جميع هؤلاء ماتوا في عهدة المحكمة الدولية وفي سجون تخضع لسلطتها، وبالتالي فان المسؤولية تعود الى تلك المحكمة والقيمين عليها. غير انه لم تتم مساءلة أو محاسبة أي شخص فيها، على رغم تكرار حوادث موت بعض المتهمين بطريقة غامضة. أما المتهمون جانكو بوبيتكو وسيمو درلياتشا وستيبو أليلوفيتش وزلكو رازناتوفيتش ونيكيكا جانجيتش وسلوبودان ميلكوفيتش وغوران بوروفنيكا وجاكو جانييتش ودراغان غاغوفيتش جميعهم ماتوا في ظروف غامضة قبل احالتهم الى سجن المحكمة الدولية في لاهاي.