لم تهدأ حركة الشيخ ميزر الفيّاض، أحد وجهاء عشيرة عرب الحروك، متنقلاً بين الجموع، داخل الخيمة البدويّة التي نسجت خيوطها من شعر الماعز، وارتفعت أعمدتها الخشبيّة لتمتد على قطعة أرض بطول نحو 70 متراً وعرض 10 أمتار، لتقي المدعوين لهيب شمس تموز الحارقة. المناسبة: لقاء للصلح بين آل «الكيار» وأبناء عمومتهم من «آل البخات» بعد جهود بذلها وجهاء عشيرة الحروك لجمع الطرفين اللذين ينتميان الى عشيرة عرب الفضل بعد 17 عاماً من العداء بسبب مقتل أحد أبناء العشيرة في ظروف غامضة.جميع أبناء عشيرة الحروك، شيباً وشباباً، في حالة استنفار طوال ذلك النهار للقيام بواجب الضيافة، توجيهات الفيّاض وابن شقيقه الشيخ وليد الفياض بمثابة أوامر، ممنوع التقصير في خدمة الضيوف، الكل ينفذ ما يطلب منه بكل طيبة خاطر. شبان يقدمون القهوة المرّة، وآخرون كلفوا توزيع مياه الشرب، والعشرات ينظمون الكراسي والطاولات. وفي الخارج، هناك من يهتم بركن السيارات وتنظيم المرور الى جانب عناصر من مخفر درك رياق، وفي حضور دورية مؤللة للجيش. في الوقت المحدد وبحسب الترتيبات، يصل وفد كبير من «آل الكيّار»، أهل القتيل، يتقدمهم أولياء الدم وكبار السنّ، تعلو صيحات المضيفين «أفسحوا الطريق. الله أكبر يا هلا بالربع في ديارهم، الله محيّ أصلكم، فضّلتم على راسنا، موقفكم موقف شهامة الخ...». يخرج وجهاء عشيرة عرب الحروك من الخيمة، يصطفّون لاستقبال الوافدين، دقائق وترتفع الأصوات مجدداً: «وصل آل البخات»، وتعاد الكرة لناحية الترحيب وطريقة الاستقبال.
اقتربت لحظة اللقاء بين أبناء العم، تكتم الأنفاس وتتسمّر العيون الى حيث نقطة الالتقاء، المصافحة بين خصوم الأمس، جرت بالأحضان والعناق الطويل وتبادل القبل الحارة، غابت الضغينة وتحركت المشاعر والعواطف، حبست الدموع بجمع الشمل بعد قطيعة دامت نحو عقدين من الزمن، ترافق ذلك مع صيحات الله أكبر صدحت بها حناجر أبناء العشائر، «الله يديم المحبة ويبعد المشاكل، خير ما فعلتم يا أولاد العم». انتهت المصافحة ليجلس وجهاء الطرفين جنباً الى جنب. بعد تلاوة «سورة الفاتحة» على نيّة التوفيق، استهلت الكلمات بحديثين دينيين لشيخي عشيرتي الحروك والفضل، شددا فيهما على الألفة والمحبة بين عشائر العرب. ولإتمام الصلح، كان لا بدّ من مشاركة المدعوين تناول طعام الغداء، وهو كناية عن «مناسف» من الرز ولحم الغنم الممزوج بالسمن العربي، تعلو كل «منسف» عظام رأس الذبيحة، وقد وضعت بشكل عمودي وفقاً للتقاليد المتّبعة عند القبائل العربيّة. واختتم اللقاء بتبادل طرفي الصلح الرايات البيض، وهي عادة متوارثة للدلالة على تصفية القلوب ونبذ الضغينة.
وبالعودة الى أساس الخلاف، أوضح أحد وجهاء عشيرة الزريقات كامل الضاهر، الذي عرّف عن نفسه بأنه «مسعف ليمين مشايخ عشائر العرب في لبنان»، أن المشكلة بدأت عام 1993، بين عائلة التدمر من جهة وعائلة البخات من جهة ثانيّة، وكلتاهما تنتميان الى عشيرة عرب الفضل، وأدى الخلاف في حينه الى مقتل شخص من «آل الكيّار» من العشيرة نفسها في ظروف غامضة، بعدما نصب له مسلحون كميناً في منطقة تعنايل شرقي مدينة شتورا. وأضاف أن أصابع الاتهام توجهت آنذاك الى أشخاص من عائلة البخات، وأوقفت السلطات أحدهم وأخلي سبيله بعد سجنه نحو سنتين ونيف لعدم كفاية الأدلة، فيما بقيت هوية الفاعل مجهولة.
من جهته، قال الشيخ ميزر الفيّاض إن الجهود التي بذلها مع أبناء عشيرته «بالتعاون من أصحاب النخوة وسعاة الخير من وجهاء العشائر العربيّة»، قد توجت بهذا اللقاء، «بعدما أثبتت المحاكمات براءة المتهمين الذين أقسموا اليمين في مسجد أزهر البقاع، على عدم علاقتهم بمقتل قريبهم».
اللقاء الذي جمع الطرفين، جرى عصر يوم الجمعة الماضي في بلدة إشهابية الفاعور (شرق زحلة)، حيث تقيم العشيرة راعية الصلح، بحضور عدد من رجال الدين وبعض وجهاء العشائر العربيّة في لبنان وسوريا، ومثّل قائد منطقة البقاع الإقليميّة في وحدة الدرك العميد شارل عطا، آمر فصيلة درك رياق الملازم أول عباس جانبين، إضافة الى عدد من رؤساء ومخاتير بلدات البقاع الأوسط، ووجوه اجتماعيّة، وفي غياب أي شخصية سياسيّة أو حزبيّة.
ويبلغ العدد التقريبي لأبناء العشائر العربيّة المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانيّة نحو 250 الف نسمة، بحسب الإحصاء الأخير الذي أعده هود الطعيمي من عشيرة عرب الحروك. وعن تمسك هذه العشائر بالقوانين الخاصة بها، أكد الطعيمي «أن العشائر تخضع لقوانين الدول التي تقيم على أراضيها، وأن حلّ الخلافات والنزاعات بينها على الطريقة القبليّة، لا يتنافى مع القوانين المدنيّة في هذه البلدان، بحيث إن الهدف في نهاية المطاف، هو إحقاق الحق لأن الصلح سيّد الأحكام».