قبل نحو قرنين، كان الوجود الشيعي في بلاد جبيل وكسروان، بحسب بعض المراجع التاريخية، غالباً على الوجود المسيحي، إلا أن تغيّر الظروف السياسية والعسكرية والصراعات الطائفية، دفع «المتاولة»، كما تصفهم معظم المراجع التاريخية، الى النزوح من كسروان وجبيل على دفعات. ومع نهاية القرن الثامن عشر، «ذاب» القسم الأكبر من الشيعة، في ظل الحملات التي شنها عليهم الأمير يوسف الشهابي منتصف القرن الثامن عشر (1763)، كما يشير المؤرخ طنوس الشدياق في كتابه «أخبار الأعيان في جبل لبنان». ووفقاً للشدياق فإن «المتاولة خافوا وقاموا بعيالهم من وادي علمات والمنيطرة الى الكورة فالقلمون، منهم من تفرق في جبة المنيطرة وعلمات، ومنهم من سكن في بلدة الهرمل». الى الهرمل توجّه، من بين من توجّه اليها، آل حمادة، بزعامة أسعد عبد الملك. هناك، وطّدت العائلة وجودها، ووصل نفوذها الى بانياس واللاذقية وحدود حلب في سوريا. ورغم النزوح، حافظ آل حمادة دوماً على علاقات طيبة مع موارنة جبيل وكسروان، وقد جرى التقليد أن يُنتخب بطريرك الموارنة تحت حماية حارسين: أحدهما من آل الخازن، والآخر من آل حمادة. كما كان للعائلة كرسي دائم الى يمين البطريرك، لكن مع انتخاب البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، كان كِلا الحارسين قد أصبحا من آل الخازن. وفي إحدى زيارات المرحوم سهيل حمادة الى الصرح البطريركي عاتب الأخير صفير مبدياً الحرص على الاستمرار في التقليد القديم، وعلى الكرسي الذي كان مخصصاً للحماديين إلى يمين البطريرك، فرد صفير «لم يعد لكم كرسي. صار عندكم غرفة».
في وعيهم الجماعي، يدرك أبناء العائلة أن أجدادهم كانوا يملكون أراضي شاسعة في العديد من مناطق جبل لبنان، ومنها لاسا. كثيرون منهم فكّروا، منذ عشرات السنين، في استرداد أملاكهم. إلا أن الرئيس الأسبق لمجلس النواب الراحل صبري حمادة كان دائماً يتمنى على أقاربه التروي لعدم إفساد العلاقة مع الكنيسة المارونية، لكن في عام 2000، تقدم مروان رأفي حمادة بدعوى قضائية ضد أبرشية جونية المارونية (مطرانية بعلبك سابقاً) ممثلة بالنائب البطريركي العام على جونيه المطران نبيل العنداري، مطالباً بتعويض عيني عن عشرات العقارات التي يملك أجداده حصصاً فيها الى جانب المطرانية.
والعقارات موضع النزاع تبلغ 95 عقاراً (من الرقم 31 حتى 125) من أراضي لاسا العقارية، أي ما مجموعه ستة ملايين متر مربع. وفي وقائع الدعوى، أنه في نهاية القرن التاسع عشر، كانت خزما ابنة فندي حمادة وحمد عبد السلام حمادة وأبو حمدة حمادة يملكون عقارات في منطقة لاسا، التي كانت تخضع لنظام تسجيل طابو في جبل لبنان القديم أُنجز في ظل حكم متصرفية جبل لبنان ابتداءً من سنة 1864، الذي أوجب فيه مجلس إدارة جبل لبنان مسح جميع أراضي جبل لبنان، لكن مفاعيل هذا القرار توقف العمل بها عندما خضع لبنان لسلطة الانتداب الفرنسي، الذي استحدث نظام السجل العيني، إلا أن منطقة لاسا، وغيرها الكثير من المناطق، بقيت خارج نظام هذا السجل، وأُخضعت عقاراتها لأحكام المرسوم الاشتراعي رقم 12 الصادر بتاريخ 28 شباط 1930.
وتنص هذه المادة على أن مكتب الطابو والتسجيل المركزي يُلحق بأمانة السجل العقاري المركزي في بيروت، وأن من مهمات هذا السجل حفظ سجلات الطابو في لبنان القديم وتصديق العقود والاتفاقات المتعلقة بإحداث حق عيني أو نقله أو تعديله. وبتاريخ 7/10/1939، طلبت مطرانية جونية المارونية إجراء مسح اختياري للعقارات في قرية لاسا، علماً أن أكثر هذه العقارات تعود ملكيتها، شراكة، الى ورثة آل حمادة والمطران يوحنا الحاج، راعي أبرشية بعلبك المارونية سابقاً. أُجري المسح وسُجلت العقارات تحت الرقم 3892\39، لكن في غياب المالكين من آل حمادة أو ورثتهم، رغم أن الأصول القانونية تنص على أن تجري عملية المسح بعلم الشريك وحضوره، وإلا عدّ الأمر تعدياً على ملكية الغير.
يذكر وكيل المدعي في مذكرته المرفوعة الى المحكمة أسباباً عدة لغياب آل حمادة عن المسح، أهمها البعد الجغرافي بين المناطق، لكون آل حمادة انتقلوا للسكن في منطقة الهرمل النائية، ولم تكن معظم وسائل الإعلام من صحف ومطبوعات تصل الى هذه المنطقة، كما أن مختار بلدة لاسا لم يكلّف نفسه عناء إرسال تبليغ الى المالكين الحماديين يعلمهم فيه بأمر المسح ووجوب الحضور، متخلياً عن واحد من أهم واجباته. جرى المسح عام 1939 بغياب آل حمادة، لكن تسجيل الملكية في دفاتر السجل العقاري في جونية جرى على مراحل في أعوام 1971 و1972 و1973 و1974. جرى ذلك كله من دون أن يوقع المالكون الحماديون أو ورثتهم أي صك بيع لأي شخص مادي أو معنوي، وهو ما استندت اليه الدعوى التي اتهمت المطرانية بمخالفة القوانين.
إثنا عشر عاماً مرت على الدعوى المسجلة أمام محكمة الدرجة الأولى في الغرفة الرابعة في قصر العدل في جديدة المتن، تحت الرقم 3616 /2000. عشرات الجلسات التأمت، وقضاة عدة تعاقبوا عليها، وتأجل صدور الحكم ثلاث مرات، كان آخرها في 24 حزيران 2010، عندما أصدرت هيئة المحكمة قراراً إعدادياً يرى أن الدعوى بحالتها الحاضرة غير جاهزة للحكم النهائي، لاستكمال مناقشة المستندات التي تقدمت بها المطرانية لما لها من «تأثير على نتيجة هذه الدعوى»، كما جاء حرفياً في محضر الجلسة، وعُيّنت جلسة بتاريخ 13/10/2011.
في دفوعه أمام المحكمة، يذكر وكيل مطرانية جونية المارونية أن أعمال «التحديد والتحرير» الاختياري ـــــ وهي العبارة المستخدمة في قاموس المساحين الرديفة لكلمة المسح ـــــ جرت وفقاً للقانون وبصورة علنية، وأن الخرائط وقعها المسّاح، وأعضاء لجنة المساحة، والمطران الياس ريشا بصفته مطران أبرشية بعلبك، ومختار بلدة لاسا، وورد في كل محاضر التحديد والتحرير ما حرفيته بـ «الشراء بموجب سندات أحتفظ بها وبالتصرف الفعلي ووضع اليد مدة تفوق مرور الزمن القانوني». وأبرزت المطرانية أمام المحكمة أحد عشر مستنداً، اثنان منها بالنسخة الأصلية وتسعة بنسخ غير أصلية. وتحت عبارة «نسخ غير أصلية» تضع الجهة المدعية «عشرات الخطوط الحمراء». ويسأل وكيلا المدعي المحاميان حازم حمادة ودينا حمادة: «أين هي النسخ الأصلية التي تثبت ملكية المطرانية ولماذا لا يجري إبرازها أمام المحكمة؟».
نظرياً، يفترض أن تنطق المحكمة بالحكم في جلسة 13 الجاري، لكن عملياً، فإن الأمور تتجه الى تأجيل جديد، في جلسة لن تستغرق أكثر من بضع دقائق. وكيل المطرانية سيؤكد قانونية المستندات، وفي المقابل ستصر جهة الادعاء على «رفض مبدأ مناقشة مستندات غير أصلية. لأن المستندات غير الأصلية لا قيمة قانونية لها»، ليبقى النزاع مفتوحاً.



بدل الضمان السنوي

لم تكن لدى المدّعي مروان رأفي حمادة، عند تقديمه الدعوى عام 2000، بصفته الشخصية وكيلاً عن ورثة المرحومين خزما فندي حمادة وأبو حمدة حمادة وحمد عبد السلام حمادة، ما يثبت ادّعاءه، فبدأ «من الصفر» جمع المستندات على رغم العقبات التي واجهته وسدّ الدوائر العقارية في وجهه. دفع الأموال للحصول على توكيل باقي الورثة واستخراج حصر الإرث وصولاً الى المرحلة المتقدمة من المحاكمة. وبعد 12 عاماً تكوّنت لديه ثلاثة ملفات تجمع مئات الوثائق والإفادات ومحاضر الجلسات وإفادات عقارية مستخرجة من سجل «الطابو»، ومن بينها إفادة صادرة عن مختار بلدة لاسا يوسف علي اسماعيل المقداد (بصفته ناطوراً عاماً على أملاك لاسا بين عامي 1946 و 1949)، وفيها أنه «كان يتردد سنوياً الشيخ خنجر حمادة الى كرسي المطرانية في لاسا لقبض بدل الضمان السنوي لأملاك آل حمادة من حضرة وكيل أملاك المطرانية»، لكن بعد وفاة خنجر حمادة عام 1955، لم يتول أيّ شخص آخر من العائلة هذه المهمة، بسبب البعد الجغرافي بين الهرمل وكسروان ونتيجة كثرة الورثة، فتوقفت المطرانية عن سداد المستحق عليها لقاء استثمارها الأراضي.