«إن كل شيء هو للأفضل في أفضل العوالم»
الدكتور بانغلوس في كانديد


من يسمع التصريحات بعد إقرار الموازنة، التي رأى بعض منها أن تمريرها كان إنجازاً كبيراً بحدّ ذاته، يظن أننا فعلاً نعيش في أفضل العوالم. فتنين العجز قُتل أخيراً، وسينخفض العجز من 11.4% إلى 7.6% من الناتج المحلّي الإجمالي، وعلى الطريق، جرت حماية الإنتاج الوطني أيضاً. وفوق كلّ ذلك، ستأتي مليارات «سيدر» إلى لبنان فتُبنى البنية التحتية، وينتعش الاقتصاد، وتعود الأموال إلى التدفّق إلى «محجّ الأموال» (التعبير لرئيس جمعية تجّار بيروت)، وتُستعاد ثقة «بيوت المال الدولية» (التعبير لرئيس لجنة الرقابة على المصارف)!
طبعاً من يسمع تلك التصاريح، ويقرأ الموازنة جيّداً، فسيعلم أننا لسنا في أفضل العوالم، بل في عالم قد يكون ظاهره عصرياً، لكن باطنه شبه إقطاعي وقديم، يَسحق التقدّم من أجل مصلحة القلّة.
في هذا الإطار، يظهر أن السمة الأساسية لهذه الموازنة، إبقاؤها على هذا الوضع الراهن المُتقادم وحماية مصالح المسيطرين فيه. من هنا، تعدّ مقاربة الموازنة، من ناحية إبقائها على القديم، بالأهمّية نفسها، إن لم يكن أكثر أهمّية، من بعض الأمور التقنية أو المالية البحتة. لكن حتّى في هذه النواحي، لا تتوافق الموازنة مع أهدافها، وبالتالي لا داعي لهذا التفاؤل الكبير، بل لأي كمّ من التفاؤل.

ثلاثة أمور ضد بانغلوس
في الأمر الأخير، هناك ثلاثة ملاحظات سريعة:
أوّلاً: إذا خُفض العجز إلى 7.6% هذه السنة، فسيواجه الحفاظ عليه، أو خفضه في المستقبل، معوقين أساسيين، الأوّل هو احتمال استمرار التباطؤ الاقتصادي مدعوماً بالتقشّف، والثاني ضيق «الفضاء المُتاح» الباقي للتصحيح المالي من دون المسّ بمصالح الطبقة المُسيطرة. عندئذ سيكون خيار الحكومات القادمة الإبقاء على الإنفاق مستقرّاً، ما يجعل الإنفاق الحقيقي يتآكله التضخّم، وهو ما يعيدنا إلى تكرار ما حصل بعد عام 2006، حين أدّى عدم وجود موازنات لسنوات مُتتالية دوراً رئيسياً في خفض الدَّيْن العام من 180% إلى ما هو عليه اليوم، وذلك بسبب تحقيق فوائض أوّلية أوتوماتيكياً. ما يعني أننا سنكون عندها أمام «إنفاق إثني عشري قسري».
ثانياً: حتّى الإيجابية الوحيدة في الموازنة هي دون المطلوب، فخفض الفوائد على 11 ألف مليار ليرة من الدَّيْن العام الذي يحمله مصرف لبنان إلى 1%، قد تكون خطوة في الاتجاه الصحيح، إلّا أنّها مؤقّتة بحيث ينتهي مفعولها مع استحقاق السندات المُستبدلة. أي أنها ستكون من دون تأثير على المسار الطويل الأمد للعجز والدَّيْن العام (إلّا إذا أُصدرت بآجال مرتفعة جدّاً، وهو أمر مستبعد، أو جُدِّدَت عند استحقاقها). بدلاً من ذلك، كان يجب تحويل هذه السندات إلى سندات أبدية بفائدة صفر، وهو ما يجعلها ــ بصورة فورية ــ خارج حساب العجز، كما خارج حساب الدَّيْن (انظر «مقصلة» غولدمان ساكس: البديل هو إلغاء دَيْن الدولة لدى مصرف لبنان). كذلك تحمل الموازنة إجراءً مؤقّتاً آخر، هو ضريبة الفوائد التي ستعود إلى معدّل 7% بعد ثلاث سنوات، ما يجعل تأثيرها في العجز مؤقتاً أيضاً.
ثالثاً، إن وضع ضريبة على الواردات بمعدّل 2% بذريعة حماية الإنتاج الوطني، غير فعّال، لأن المعدّل متدنٍّ، وبالتالي تأثيره في أسعار البضائع المستوردة قد يراوح بين صفر (إذ قرّر المستوردون أنفسهم تحمّل هذه الزيادة وامتصاصها) و2% (إذا قرّر المستوردون تحميل هذه الزيادة للمستهلكين)، فضلاً عن أن الدولار القوي مقابل العملات، الآن، سيلغي تأثير مفاعيل هذه الزيادة في تنافسية السلع اللبنانية.

موازنة لعبة العروش
بالإضافة إلى كلّ ذلك، تبرز ثلاثة أمور أساسية وعامّة تبيّن أن هذه الموازنة تقف مع «القديم» ضدّ التقدّم.
أوّلاً: نحن في مرحلة وصل فيها الاقتصاد اللبناني إلى انقسام حادٍّ بين الريع والرأسمال المالي وغير المُنتج من جهة، والعمل والإنتاجية والتعليم والمهارات من جهة أخرى. لقد راكم الرأسمال ثروات وازدادت حصّته من الناتج، بينما أصبحت العوائد الناتجة من العمل متدنّية نسبياً، إذ لم يرتفع الأجر في القطاعات النظامية مع زيادات التضخّم، وبالتالي تدنّى مستوى معيشة العمّال والموظّفين، وكذلك العائد على التعليم العالي بعد أن كان الطريق الذي اختاره كثيرون للترقّي الاجتماعي، فأصبحت المهارات المُكتسبة مُبدَّدة في هذا الاقتصاد المُنحاز إلى القطاعات المالية والعقارية والخدماتية والتجارية. وبات الواقع الاقتصادي للداخلين إلى سوق العمل سنوياً كالآتي: إمّا أن ينضمّوا بأكثريتهم إلى جيش العاطلين من العمل أو إلى جيش البطالة المُقنّعة أو إلى العمل غير النظامي أو إلى تحقيق العائد على التعليم عبر الهجرة.
وهنا بدلاً من أن تأتي الموازنة لتساهم في تصحيح هذا الخلل الاقتصادي الكبير، زادت الطين بلّة: وضعت ضريبة على معاشات المتقاعدين، وبدلاً من تصحيح معدّلات الشطور في ضريبة الدخل على الأجور لتأخذ بالاعتبار التضخّم الحاصل منذ عام 1998، وضعت ضريبة 25% على شطر جديد للأجور التي تتجاوز 225 مليون ليرة (وكذلك على أرباح شركات الأفراد). والمحصّلة من ذلك، تأكيد الزيادة الفعلية للضريبة على الأجور التي حصلت نتيجة الزحف الضريبي منذ عام 1998، وزيادة المعدّل على الأجور العالية. وبالتالي، أصبح الكثير من الموظّفين ذوي الأجور العالية، وكذلك الشركات المتوسّطة والصغيرة الحجم، يدفعون معدّلات أعلى ممّا تدفعه شركات الأموال، ومن ضمنها المصارف (17%)، أو ممّا يدفعه الرأسمال المالي الموضوع في السندات والودائع المصرفية (10%). وبهذا عزَّزت الموازنة من انحياز النظام الضريبي لمصلحة الرأسمال الكبير والرأسمال المالي غير المُنتج ضدّ العمل والرأسمال الصغير.
التركيز على التقشّف أنسى الجميع إمكانية تحقيق إنفاق اجتماعي مثل التغطية الصحّية الشاملة وبرنامج لمكافحة الفقر والتهميش


أخيراً، ألم يسأل أحد لماذا الإجراءات الضريبية على عوائد الرأسمال (السندات، الودائع) أتت مؤقّتة، فيما الإجراءات على الأجور ومعاشات التقاعد دائمة؟
ثانياً، إن الانقسام بين الدولة الحديثة ودولة الطائف والمحاصصة المذهبية على أشدِّه اليوم. وهنا أتت أيضاً الموازنة لتقف ضدّ الدولة الحديثة. وإن كانت الموازنة في ظاهرها تحاول كبح جماح الدولة، إلّا أنها في الواقع تقف مع السيّئ في هذه الدولة ضدّ الأفضل فيها. فبدلاً من بناء الدولة عبر التوظيف النظامي وبناء مؤسّساتها الحديثة، أوقفت التوظيف وأبقت على جيش المياومين والمُتعاقدين، وشيئاً فشيئاً ستتحوّل الدولة إلى هيكل فارغ تملأه التوظيفات المذهبية التي تنقسم من جهة إلى فئة صغيرة جدّاً من «أرستقراطية وظيفية» تُلبّي حاجات «إنتيليجينسيا» المذاهب، ومن جهة أخرى إلى غالبية ساحقة مُتعاقدة مُياومة ومُهمّشة تلبّي حاجات الزبائنية السياسية المذهبية. وأخيراً، وليس آخراً، تعدّ الإجراءات التقشّفية في الجامعة اللبنانية، وكذلك وقف التوظيف النظامي فيها من دون أي مُبرّر، خير مثال على هذا التدمير المُمنهج لمؤسّسات الدولة.
ثالثاً، تخدم الموازنة أيضاً قوى الماضي على حساب المستقبل. لقد كان لتراكم الدَّيْن العام وفوائده العالية وتركّز ملكيّته أثر كبير في تركّز الثروة لدى القلّة. كذلك إن النظام الضريبي القائم منذ عام 1993، ترك عوائد الرأسمال بأشكاله كافّة تتراكم كثيراً. وهو ما خلق سُلالات ثريّة تتوارث الثروة من جيل إلى جيل، في مقابل أجيال قادمة سترث الدَّيْن العام المُتراكم. في حين أن الطريقة الوحيدة للتصحيح، أو عكس هذا المسار، تكمن بتصحيح النظام الضريبي، ووضع الضرائب على الثروة ورفع الضرائب على شركات الأموال والفوائد والميراث بنحو تصاعدي. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن التركيز على التقشّف أنسى الجميع إمكانية تحقيق إنفاق اجتماعي مثل التغطية الصحّية الشاملة وبرنامج حقيقي لمكافحة الفقر والتهميش. وبما أن الحكومة لم تقدم على ذلك من خلال الموازنة، فهي تقف مع الماضي ضدّ المستقبل.
يقول بول ماسون في مقالته «هل تستطيع النظرية الماركسية أن تتنبّأ بنهاية لعبة العروش؟»، إن الإقطاعية انتهت عندما «أدّت الديون المُتراكمة، في ظل نظام زبائني فاسد جفّف مصادر الثروة، إلى تدمير النظام في النهاية». ويقول: «ما تحتاجه وستروس ليس هجوم المستذئبين من الشمال المُتجمّد، وإنّما رأسماليين - مثل هؤلاء الذين يحدّقون بنا بصرامة من الرسوم الهولندية في القرن السابع عشر - يطلقون ثورة كما في الجمهورية الهولندية والحرب الأهلية الإنكليزية».
في لبنان، لا يزال التوتر الكامن بين الرأسمال والطوائف مدفوناً عميقاً، بل عميقاً جدّاً، تحت الرماد. فالرأسمالي اللبناني أطلّ منذ زمن، لكنّه قرّر أن يتعايش مع «سيَّاد الأرض»، ومنذ نهاية الحرب قرّر أن يعتاش، بطرق مختلفة، من الدولة وتفكّكها. اليوم، تعكس الموازنة هذا التعايش والاعتياش مرّة أخرى. ما يعني أن الموازنة لم تكن أبداً للأفضل، بل للأسوأ، وفي أسوأ العوالم، وهو عالم التخلّف المذهبي والطائفي شبه-الإقطاعي المُولّد للعداء للآخر والأجانب والمرأة، وعالم الرأسمال الخامل الرجعي والأرستقراطية والسُّلالات المالية. طبعاً، لم تأتِ نهاية «لعبة العروش» كما توقّعها ماسون، ولا كما توقّعها غيره أيضاً، فهي كانت بالنسبة إلى كثيرين مخيِّبة للآمال. ومثلها، أتت نهاية الموازنة في لبنان. هذا أمر يمكن تحمّله، لكن من الضروري ألّا تكون نهاية «لعبة العروش» اللبنانية مخيِّبة أيضاً.