أخبرنا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة (بطريقته)، أنّ علينا من الآن وصاعداً أن نعتاد على سعرين لصرف الليرة في مقابل الدولار، الأوّل هو السعر الاسمي الذي يُحدِّده البنك المركزي في عمليّاته مع البنوك التجارية وتجري على أساسه عمليّات البنوك مع زبائنها. والثاني هو السعر المتداول في السوق الذي يُحدِّده الصرّافون وتجّار العملات بناءً على عوامل العرض والطلب. عملياً، يبيع البنك المركزي الدولار إلى البنوك التجارية ويشتريه منها على سعر 1514 ليرة، في حين يجري التداول به خارج البنوك بزيادة تراوحت ما بين 3 و6%. ووفق المعلومات بين المصرفيين فإن مصرف لبنان قرّر ضمنياً ألّا يتدخّل في تحديد السعر الثاني، طالما بقي يتحرّك ضمن هامش لا يتجاوز 10%. وهذا يعني، إذا كان صحيحاً، أن سعر الدولار غير الرسمي يمكن أن يبلغ 1665 ليرة كحدّ أقصى قبل أن يقرِّر مصرف لبنان زيادة وتيرة تدخّله وكبح أي مضاربات قد تحصل.
لا تؤكّد مصادر مصرف لبنان هذه المعلومات الشائعة ولا تنفيها، وتعتبر أنه من الخطأ الحديث عنها حتّى ولو كانت صحيحة، إذ لا يجب على البنك المركزي أن يكشف أوراقه أمام المُضاربين المستعدّين دائماً للانقضاض على الليرة وجني الأرباح الطائلة من التلاعب بسعرها. وتوضح هذه المصادر أن «الوضع ليس على ما يرام»، إلّا أن ذلك لا يعني أن مصرف لبنان فقد سيطرته، وهو لا يزال يعلن التزامه بسياسة «استقرار سعر صرف الليرة»، ويستند إلى موجودات بالعملات الأجنبية تبلغ نحو 38.3 مليار دولار، أي بما يكفي لتغطية السيولة المُتاحة للتحويل من الليرة إلى الدولار، وهذا يعني أن البنك المركزي لا يزال اللاعب الحاسم في السوق وباستطاعته تكبيد المضاربين الخسائر في حال خرجوا عن «قواعد اللعبة» التي يرسمها.
الحديث عن هذا القدر من الموجودات بالعملات الأجنبية يظهر في تقارير «الخبراء» كما لو أنه مجرّد وهم إحصائي، إذ في مقابل هذه الموجودات تتراكم الالتزامات بالعملات الأجنبية على مصرف لبنان، ويقدّر أنها بلغت أكثر من 65 مليار دولار، أي أن مصرف لبنان لا يمتلك أي احتياطات صافية بل هو مديون بأكثر من 30 مليار دولار، فضلاً عن أن الموجودات الموضوعة في تصرّفه ليست كلّها قابلة للاستخدام في الدفاع عن سعر صرف الليرة، وقدّرت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني قيمة الموجودات القابلة للاستخدام بما بين 6 مليارات و10 مليارات دولار، وهي شديدة الحساسية إزاء خروج الودائع، وبالتالي قابلة للنضوب بأسرع ممّا يمكن توقّعه.
تعكس تدخّلات مصرف لبنان اليومية في سوق القطع الأجنبي نمطاً غريباً، فقد اضطر في الأسبوع الماضي إلى بيع المصارف 354 مليوناً و625 ألف دولار، ولم يشترِ منها سوى 10 ملايين و250 ألف دولار، وهذا يشير إلى أن الطلب على الدولار لا يزال مرتفعاً، وأن مصرف لبنان لا يزال يلبّي جزءاً من هذا الطلب عبر عمليّاته مع المصارف. إلّا أن التتبّع اليومي لحركة بيع الدولار وشرائه يُظهر تذبذبات لافتة، إذ ارتفعت مبيعات مصرف لبنان يوم الاثنين الماضي إلى 90 مليوناً و450 ألف دولار، وارتفعت يوم الثلاثاء إلى 142 مليوناً و400 ألف دولار، وهذا أعلى مستوى للتدخّل تمّ تسجيله منذ بدء الحديث العلني عن وجود حالة «نقص الدولار»، ولا سيّما في الشهر الماضي. ولكن نمط تدخّل مصرف لبنان تغيّر فجأة يوم الجمعة (آخر أيام العمل الأسبوعي)، إذ تراجعت مبيعاته إلى 21 مليوناً و75 ألف دولار وبلغت مشترياته في اليوم نفسه 9 ملايين و500 ألف دولار.
يمكن تفسير هذه التذبذبات بأمور تقنية كثيرة تتعلّق باستحقاقات الودائع في بداية الشهر، ويمكن أيضاً اللجوء إلى التحليل السيكولوجي الذي يربطها بصدور تعميم عن حاكم مصرف لبنان يوم الثلاثاء الماضي، بهدف تنظيم بيع الدولارات لمستوردي القمح والدواء والمحروقات. ولكن هذا التفسير أو ذاك التحليل لا يمكنهما تجاهل حقيقة أن لا شيء تغيّر، فحالة «نقص الدولار» لا تزال قائمة وتتفاقم وتستنزف قدرة مصرف لبنان على التدخّل وتضغط على سعر الصرف خارج عمليّاته، وهو ما دفع الصرّافين إلى إعلان الإضراب (قبل تعليقه) رفضاً لتحميلهم مسؤوليّة انخفاض سعر صرف الليرة. كذلك لا يمكنهما تجاهل أن التعميم المذكور رفضه المستوردون المعنيون الذين اعتبروا أن آلياته وشروطه تزيد من أكلافهم ولا تناسب تجارتهم، ولا سيّما أن معظم مستوردي القمح والدواء يتعاملون بالتحويلات المباشرة ولا يمكنهم التعامل بالاعتمادات المستندية.
توجد مؤشّرات عدّة على أن زيادة تدخّل مصرف لبنان في الأسبوع الماضي جاءت تحت ضغط سياسي، أو استجابة لمطالب رئيس الجمهورية، الذي استدعى حاكم مصرف لبنان وأبلغه بوضوح شكوكه في وجود ضغوط مفتعلة على سعر صرف الليرة، يغذّيها تقنين البنك المركزي لتدخّلاته وتفضيله نشوء سوق موازية للدولار على مواصلة استنزاف موجوداته بوتيرة سريعة. إلّا أن سلامة، على الرغم من استجابته، واصل الحديث عن أن الفرق بين سعر صرف الليرة لدى المصارف ولدى الصيارفة هو «اعتيادي». بل حاول يوم الخميس الماضي أن يوحي أن هذا الفرق «لطالما كان قائماً (...) والسبب أن أسواق الصيارفة والأوراق النقدية بالدولار، هي أسواق لا يتدخّل فيها مصرف لبنان إلّا من ناحية التنظيم. فالصرّاف لا يملك حسابات في مصرف لبنان، وبالكاد أن يملك حسابات في المصارف (...) وما شهدناه ابتداءً من حزيران/ يونيو هو ارتفاع الطلب على هذه الأوراق النقدية، لا بل تضاعفت قيمة شحن الأوراق النقدية التي يستخدمها الصرّافون. ربّما هذا الطلب محلّي، من محطّات البنزين أو الأفران أو الصيادلة بسبب الدولرة، بحيث إن المستورد يطلب من عملائه الدفع بالدولار (...) أو ربّما نتيجة زيادة الاستيراد لبعض المواد التي لا نعلم إذا ما كانت للاستهلاك المحلّي أم لا».
بمعزل عن محاولة سلامة الإيحاء بأن «نقص الدولار» ناتج عن أعمال غير مشروعة كالتهريب والمضاربات، إلّا أنه كان واضحاً وصريحاً بأن تثبيت سعر صرف الليرة في مقابل الدولار لم يعد ممكناً وفقاً للقواعد السابقة، وبالتالي لا مناص، برأيه، من تكريس نظام السعرين والقبول بفرض بعض الضوابط على تحويل الودائع لدى المصارف وتقييد الاستيراد والتحويل من لبنان إلى الخارج، وهي ضوابط وقيود يجري تنفيذها من دون إعلان أي أطر نظامية، خوفاً من ردود الفعل «الأيديولوجية» التي لا تزال تتباهى بأن الدولة اللبنانية لم تلجأ حتّى في أحلك ظروف الحرب والاحتلال إلى المسّ بحرّية التحويل بين العملات وحركة رأس المال والتجارة عبر الحدود، كما لم تلجأ يوماً إلى التوقّف عن تسديد التزاماتها الخارجية وديونها المحلّية.
في الواقع، ما يصرّح به سلامة عن أن مصرف لبنان لا يتدخّل في الأصل بالسعر لدى الصرّافين، هو صحيح. ولكن ما تغفله هذه التصريحات عن قصد هو أن حالة «نقص الدولار» هي حالة مستجدّة على الواقع اللبناني، بدأت تظهر مع تسجيل ميزان المدفوعات عجوزات سنوية متراكمة اعتباراً من عام 2011، وبلغت مستوى قياسياً تاريخياً جديداً في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام (5.3 مليارات دولار). في السابق، حاول البنك المركزي أن يعوّض هذا النقص عبر «الهندسات المالية» ورفع سعر الفائدة الفعلي لتجديد الودائع وجذب المزيد منها، ولا سيّما اعتباراً من عام 2016، وبالتالي استمرّ بائعاً للدولار عبر المصارف بما يغطّي الطلب، ومعظمه كان يأتي من المستوردين والدولة (تولّى البنك المركزي تمويل استحقاقات سندات الدَّيْن بالعملات الأجنبية في هذا العام والفوائد ومستوردات الفيول للكهرباء)، لذلك لم يكن التجّار مضطرين للجوء إلى الصرّافين للحصول على الدولارات التي يحتاجون إليها لتمويل تجارتهم، وبقي الطلب عند الصرّافين متركّزاً على مبالغ ليست كبيرة ناتجة عن سياحة المقيمين في الخارج وتحويلات العاملات والعمّال الأجانب من لبنان إلى بلدانهم، وكان من السهل على كل متعامل مع مصرف أن يجري هذه العمليّات عبر المصرف لا عبر الصرّاف. ولكن اشتداد «نقص الدولار» في العام الماضي وهذا العام، نتيجة ارتفاع منسوب خروج رأس المال من لبنان وتباطؤ تدفّق ودائع غير المقيمين (يشير صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير الممنوع من النشر إلى أن جزءاً من الزيادة الطفيفة التي طرأت على ودائع غير المقيمين هو في الحقيقة ودائع لمقيمين جرى تسجيلها كودائع لغير المقيمين للاستفادة من أرباح الفائدة الإضافية التي عرضتها الهندسات المالية)، دفع البنك المركزي إلى تقنين بيع الدولار للمصارف بهدف إبطاء نزيف موجوداته بالعملات الأجنبية، ما جعل المصارف غير قادرة على تلبية طلب زبائنها على الدولار، فاضطر القسم الكبير منهم للجوء إلى الصرّافين ودفع سعر أعلى من السعر الرسمي للحصول عليه. يمكن لأي زبون، من أي فئة كانت، أن يتلمّس الفرق في تعاملاته المصرفية بين الماضي والحاضر، إذ سيكتشف أن عدداً من القيود والضوابط باتت تحكم هذه التعاملات، بما فيها امتناع معظم المصارف عن تحويل الودائع من الليرة إلى الدولار أو تسوية معاملات بالدولار، عبر الدفع بالليرة أو وضع سقوف للسحب من حسابات الودائع بالدولار أو منع كسر الودائع قبل استحقاقها... إلخ.
ما جرى حتّى الآن لا يشي أن حالة «نقص الدولار» باتت وراءَنا، ولذلك ليس ممكناً التنبّؤ بالمسار الذي سيتّخذه سعر صرف الليرة، ولا سيّما أن مصالح كبيرة وكثيرة لا تزال تتقاطع على تفادي انهياره أو تخفيضه تخفيضاً كبيراً، أقلّه في هذه المرحلة. فتخفيض سعر صرف الليرة سيؤدّي إلى انهيار القدرات الشرائية للأجور والمدّخرات بالليرة، وبالتالي سيكون سبباً إضافياً للركود الاقتصادي وازدياد البطالة والتوتّرات الاجتماعية. في المقابل، لم يعد لهذا التخفيض تأثير كبير على الدَّيْن العام وكلفة الفوائد المترتبة عليه في ضوء ارتفاع ديون الحكومة ومصرف لبنان بالعملات الأجنبية إلى أكثر من 100 مليار دولار، 35 مليار دولار منها تجري خدمتها عبر الموازنة العامّة و65 مليار دولار عبر ميزانية مصرف لبنان. كما أن الدَّيْن الخارجي، الذي يشمل ودائع غير المقيمين والتزامات الحكومة ومصرف لبنان والمصارف (غير الودائع) والالتزامات غير المصرفية، بلغ نحو 190% في عام 2018، ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير «إن حدوث صدمة بسعر الصرف وانخفاض قيمة العملة بنحو 30% قد يؤدّي إلى ارتفاع الدَّيْن الخارجي إلى نحو 300% من الناتج المحلّي الإجمالي»، وهذا وزن للدَّيْن ثقيل بكل المقاييس، لا يستطيع الاقتصاد اللبناني أن يتحمّله بأي شكل من الأشكال، وبالتالي سيكون عاجزاً عن تسديد التزاماته كلّها تجاه غير المقيمين ويعرّض رؤوس الأموال الموظّفة في الدَّيْن الخارجي للخسارة.
وفق المؤشّرات المُتاحة، تتجه الأمور نحو الأسوأ في كلّ الأحوال، سواء تمّ تخفيض سعر الصرف أم استمر الدفاع عنه، والمسألة مسألة وقت لا أكثر ولا أقلّ. للأسف، لا تقدّم «السلطة» جواباً شافياً يمكن أن يهدّئ المخاوف، سوى أن علينا أن نعتاد على وجود أسواق عدّة للصرف وأكثر من سعر للدولار، وفي ظل ذلك، علينا أن نقبل بالمزيد من التقشّف وتخفيض القدرة الشرائية لتخفيض الاستهلاك والاستيراد، وأن نبيع ما فوقنا وما تحتنا من أجل الحصول على حفنة إضافية من الدولارات نشتري فيها ما أمكننا من وقت مكلف جدّاً، أكثر بكثير ممّا دفعنا حتّى الآن.