«التضخّم غير عادل، أمّا انكماش الأسعار فهو أخرق. ومن بين الاثنين، فإن انكماش الأسعار، إذا استثنينا حالات التضخّم المُفرط مثل ألمانيا هو الأسوأ، لأنه في عالم يفتقر، من الأسوأ أن تحدث البطالة من أن يتمّ تخييب أمل الريعي»
جون ماينارد كينز


الزمان: عام 1930. المكان: ألمانيا. الحدث: مجيء هاينريك برونينغ إلى سدّة المستشارية الألمانية في آذار/ مارس في خضمّ الكساد العظيم الذي اجتاح ألمانيا بدءاً من عام 1929، وبدلاً من اتباع سياسات نقدية ومالية توسّعية لإنقاذ الاقتصاد، قام برونينغ باتّباع سياسات التقشّف، فرفع الضرائب وجمّد الإقراض وخفّض الأجور والمنافع الحكومية، وأدّى ذلك إلى تعميق الكساد والانكماش في الأسعار. يقول المؤرِّخ الاقتصادي الأميركي بيتر تمين «إن السلطات النقدية والمالية الألمانية كانت ضحية تاريخها، وكان من غير المفاجئ أنها تصرّفت كما تصرّفت»، في إشارة منه إلى الخوف العميق الذي كان مسيطراً على «النفسية» الألمانية آنذاك (وحتّى الآن) من تكرار تجربة التضخّم المُفرط في عام 1923 التي عاثت تخريباً في البنية الاقتصادية والاجتماعية لجمهورية الفيمار بعد الحرب العالمية الأولى. جاء الكساد العظيم وأتى برونينغ، وألمانيا لا تزال ملتزمة بنظام معيار الذهب، أي أن المارك الألماني كان مُثبتاً تجاه الذهب، كما العديد من العملات حول العالم آنذاك، ومنها الدولار الأميركي والجنيه الاسترليني.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

كانت إحدى الطرق المُتاحة أمام المانيا للتعامل مع الأزمة، أن تفكّ المارك عن معيار الذهب، أي أن تخفّض سعره وبالتالي يؤدّي إلى التخفيف من وطأة الانكماش في الاقتصاد الألماني عبر ضخّ التضخّم ورفع الصادرات الألمانية، وبالتالي زيادة الطلب الكلّي على السلع الألمانية. لكن برونينغ اختار البقاء ضمن معيار الذهب، وبدلاً من تخفيض العملة فرض قيوداً على الصرف من أجل منع المضاربة، ووضع قيوداً على كل التعاملات بالعملات الأجنبية وأصبح لزاماً عليها أن تمرّ عبر المصرف المركزي، كما تمّ الحصول على بعض الاعتمادات القصيرة الأمد من الخارج (هل كل هذا يبدو مألوفاً؟). كانت هذه الإجراءات فعّالة في الحفاظ على ثبات العملة الألمانية وتمّ كل ذلك، لأن الألمان كما يقول بيتر تمين أيضاً، كانوا محكومين بـ«أيديولوجية معيار الذهب» اعتقاداً منهم أنهم إذا بقوا ضمن هذا النظام وقاموا بالتقشّف وكل ما تُمليه عليهم الحاجة إلى التوازن الاقتصادي، فإن الأزمة ستنتهي. لكن الأزمة لم تنتهِ بل تفاقمت حتى وصل النازيون إلى السلطة في عام 1933 جزئياً بسبب هذه السياسات الانكماشية.
الحكم التاريخي على هذه السياسة، بشكل عام، أنها كانت سيّئة لأنها أطالت أمد الكساد العظيم وكان من الضروري، وإن لم يكن بالأمر السهل، إحداث تخفيض منظّم للمارك الألماني بدلاً من السياسة التي اتُّبعت.

متى يكون سعر الصرف مرتفعاً؟
منذ بريتون وودز هناك نقاش اقتصادي حول التثبيت أو عدمه، ومتى تقوم الدول بخفض سعر الصرف من تلقاء نفسها، وما إذا كان سعر الصرف مرتفعاً أم لا حتى يبدأ الحديث حول الحاجة إلى تخفيضه. في الأمر الأخير، هناك معيار التوازن الخارجي من حيث حدوث عجز خارجي مُزمن (أي أن تكون الواردات أكبر بكثير من الصادرات أو أن يكون الحساب الجاري سلبياً لمدة طويلة). عندها يمكن القول بأن هناك عدم توازن ناتجاً عن سعر صرف العملة، وبالتالي فإن تخفيض العملة يؤدّي إلى أن تصبح الواردات أغلى سعراً والصادرات أقلّ سعراً، وبالتالي يتمّ تصحيح العجز. وكان هذا الأمر مثلاً المُحفّز الأساس أيام بريتون وودز لتغيير سعر الصرف، وأصبح أيضاً ضمن الأسباب التي يأخذها صندوق النقد الدولي في الاعتبار عند الطلب من الدول تخفيض قيمة عملتها.
الاستنتاج الأول: اليوم في لبنان، إن استمرارية العجوزات الخارجية تعني أن سعر الصرف قد يكون مرتفعاً.

مؤشّر البيغ ماك أو اقتصاد البرغر
أحد المؤشّرات «الموضوعية» على ارتفاع أو تدنّي سعر أي عملة هو قانون وحدة الأسعار، والتي تعتمد على فرضية أن أسعار السلع المتبادلة عالمياً يجب أن تكون متساوية في جميع أنحاء العالم. هذا القانون دفع مجلّة الإيكونوميست البريطانية أن تستنبط مؤشّراً «خفيف الظلّ» ألا وهو مؤشّر البيغ ماك، أي المُعتمد على سعر وجبة البيغ ماك عند سلسلة المطاعم العالمية ماكدونالدز. فوفق نظرية أحادية السعر يجب أن تكون سعر وجبة البيغ ماك هي نفسها في جميع البلدان. أي إذا كانت في الولايات المتّحدة تبلغ 3 دولارات فإنه يجب أن تبلغ 4500 ليرة اليوم في لبنان، إذا كان سعر صرف الليرة اللبنانية «صحيحاً» تجاه الدولار الأميركي. في هذا السياق، ماذا يقول مؤشّر البيغ ماك اليوم حول العملة اللبنانية؟ وفق موقع الإيكونوميست حول المؤشّر، فإن سعر البيغ ماك في لبنان في تموز/ يوليو 2019 بلغ 6.500 ليرة، أمّا في الولايات المتّحدة فبلغ 5.74 دولارات ما يعني أن الدولار الأميركي يجب أن يكون سعره 1.132 ليرة لبنانية. هذا يعني أن الليرة اللبنانية حالياً متدنية القيمة، وتحديداً هي 24.9% تحت قيمتها الحقيقية. تجدر الإشارة هنا إلى أن جميع البلدان في قاعدة الإيكونوميست وفق المؤشّر هي متدنية القيمة ما عدا الفرنك السويسري.
الاستنتاج الثاني: مؤشّر البيغ ماك يعني أن سعر الليرة اللبنانية قد يكون متدنياً.

من يتكيّف مع من؟
طبعاً، لا أحد يأخذ قراراً بشأن سعر الصرف مبنياً على مؤشّر البيغ ماك، فالرهانات (stakes) عالية جدّاً. لكن في هذا الإطار، وكما رأينا فإن الاقتصاد السياسي في لبنان هو داعم بشكل كامل لسياسة تثبيت سعر الصرف وقد امتُحن هذا الأمر مرّات عديدة عبر السنين، وآخرها اليوم في خضم أزمة ميزان المدفوعات والقيود على الصرف، أي أن الخيار هو شبيه بخيار برونينغ في ألمانيا. وحتى في مواجهة صندوق النقد الدولي كان ردّ رئيس الحكومة واضحاً في خطابه في البرلمان على الرغم من نفي مستشاره طلب الصندوق خفض العملة. تجدر الإشارة هنا إلى أنه في بعض الأحيان، لا يتذكّر أحد لماذا تمّ تثبيت سعر الصرف في لبنان ولماذا يتمّ الدفاع عنه، غير أنه أمر أصبح متلازماً مع الرأسمال السياسي لنظام الطائف.
بدلاً من أن يتكيّف سعر الليرة مع الاقتصاد، يبدو أن الاقتصاد اللبناني هو الذي يتكيّف مع سعر الصرف


إن الدفاع عن الليرة مهما كانت الظروف، له في بعض الأحيان أكلاف عالية. فقبل مجيء برونينغ، انتقد جون ماينارد كينز خطّة وينستون تشرشل للعودة إلى معيار الذهب في عام 1925 (الذي تمّ التخلّي عنه خلال الحرب العالمية الأولى)، على أساس سعر مرتفع للجنيه الاسترليني، لأن ذلك سيؤدّي إلى إحداث انكماش داخلي في الأجور والأسعار من أجل أن يتلاءَم الاقتصاد مع سعر الصرف. ومن أجل ضمان حصول ذلك، كان على الحكومة أن تهندس ركوداً اقتصادياً عميقاً لزيادة البطالة وكسر شوكة العمّال. فالعودة إلى سعر الصرف المرتفع يعني أن الأجور والأسعار والأكلاف الداخلية التي تكوَّنت خلال سنوات أصبحت مرتفعة نسبة إلى الخارج، ما يعني أن هذه العودة ستؤدّي إلى عجوزات خارجية، لأن بريطانيا ستستورد أكثر وتصدّر أقل. في هذا الإطار أيضاً، يقول العالم السياسي جيفري فرايدن في تحليله لأزمة المكسيك في عام 1994، أو ما عُرف بـ«أزمة التيكيلا»، إنه في حال وجود اقتصاد سياسي مؤيّد لثبات سعر الصرف، يجب على الاقتصاد الكلّي عندها أن يتكيّف مع سعر الصرف بدلاً من أن يتكيّف سعر الصرف مع الاقتصاد.
اليوم في لبنان، وبغضّ النظر إذا كانت الحكومة اللبنانية ستستطيع أن تفرض إجراءات التقشّف عبر زيادة الضرائب الاستهلاكية على أنواعها التي تشكّل نوعاً من التكيّف الداخلي لخفض الاستهلاك والاستيراد، أصبحت ديناميكية الاقتصاد تتجه إلى التكيّف تلقائياً. فالاقتصاد دخل في فترة ركودية منذ عام 2011 مع انخفاض دراماتيكي في النموّ عن ذلك الذي شهده بين عامي 2007 و2010. كما أن مؤشّر مشتريات المديرين Purchasing Managers Index الذي يصدره بنك بلوم يشهد على انكماش contraction مستمرّ منذ عام 2013، كذلك نرى انكماشاً deflation واضحاً في أسعار الأصول خصوصاً العقار، كما إن معدّلات التضخّم دخلت حيّز الانكماش في عامي 2015 و 2016، ومن المتوقّع أن يعود هذا الانكماش في الأسعار خصوصاً في بعض السلع غير القابلة للتبادل. وهذه كلّها إشارات على أن الاقتصاد بدأ فعلياً يتكيّف مع سعر الصرف في ظل وجود تراجع في تدفّقات رؤوس الأموال الذي حصل أيضاً منذ عام 2011 وفي ظل تراجع الصادرات. إذاً، بدلاً من أن يتكيّف سعر الليرة مع الاقتصاد، يبدو أن الاقتصاد اللبناني هو الذي يتكيّف مع سعر الصرف.

الحكومة نسيت في حماوة الأزمة كل الطروحات السابقة عن أن المسبِّب الرئيس للأزمة هو الاقتصاد الريعي


في النهاية، وعلى الرغم من عدم دقّة المعطيات في لبنان أحياناً ولعدم وجود هيئة عليا تعلن رسمياً دخول الاقتصاد في ركود أو حصول انكماش، يمكننا اليوم أن نرى أيضاً أن ممثلي القطاع الخاص على أنواعهم بدأوا يحذّرون من انهيار القطاع. فمنذ أسبوعين حذّرت الهيئات الاقتصادية من تراجع الاقتصاد مثل «أحجار الدومينو» وهو تشبيه لا بأس به لحالة انكماشية متسارعة. كما أطلقت جمعية تجّار بيروت حملة مفادها «منع الانهيار». فعلى الرغم من المنحى المُبالغ به لتصريحات ومواقف جمعية التجّار، ولرئيسها خصوصاً، إلا أنه من الواضح أن الأمور تتدحرج بسرعة.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل ستأخذ الحكومة اللبنانية على عاتقها، تحت الضغط الداخلي والخارجي، في انتظار عودة التدفّقات الخارجية، سياسات لـ«ترتيب البيت الداخلي» والتي ستعمّق من الأزمة كما فعل برونينغ؟ كلّ الإشارات تؤشّر إلى ذلك، إذ يبدو أن الحكومة نسيت في حماوة الأزمة كلّ الطروحات السابقة عن المسبّب الرئيس للأزمة، أي الاقتصاد الريعي، إذ من هنا يجب أن يبدأ العمل الجدي، لا الفولكلوري ولا التقشّفي، لبدء حلّ الأزمة. لكن هذا يتطلّب إجراءات، كما سنرى، هي الأكثر أهمّية في موضوع الليرة vs الدولار.