الأزمة لا تزال في بدايتها. هذه العبارة لا تحتمل الكثير من التأويل، بل تشير إلى أن الكارثة لم تحلّ بعد. الأمر لا يتعلق هنا بالتشاؤم أو التفاؤل، بل بالحقائق. ثمّة حقيقة تشير إلى أن ما نشهده اليوم من فقر وبطالة لا يعبّر عن مدى عمق الأزمة وتجذّرها ونتائجها المستقبلية. ثمة حقيقة ثانية تاريخية، تشير إلى أن استقرار سعر الصرف يأتي دائماً آجلاً بتصحيح نسبي بسيط عمّا بلغه فعلياً في السوق. بعبارة أخرى، لن يعود سعر الصرف إلى ما كان عليه أيام تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار بنحو 1507.5 ليرات وسطياً، وأن الليرة لم تعد وحدة قياس فعلية لقيمة الأصول الثابتة وغير الثابتة. قد تكون هناك بضعة مؤشّرات على آليات التسعير، لكنّها مؤشرات ظرفيّة ستتغيّر تدريجاً. نحن اليوم في مرحلة ضبابية جداً عنوانها الوحيد «الانفلات».
أنجل بوليغان ــ المكسيك

التسعير بـ«التخمين»
في السوبر ماركت، تضاعفت أسعار السلع الغذائية والمنزلية أكثر من مرّة. الأسعار لم تتضخّم فحسب بل تورّمت بشكل مخيف. ثمّة سبب واضح يتعلّق بتمويل استيراد هذه السلع بالدولارات الطازجة المسعّرة في السوق بأكثر من 4300 ليرة لكلّ دولار، إلّا أن السبب الفعلي يتعلق بـ«التخمين». ففي السوبر ماركت لا يزال الناس يشترون هذه السلع بما لديهم من مدّخرات أو مداخيل. لكنهم يشترون كمّيات تخزينية أكثر منها كميات استهلاكية شهرية في محاولة لتجنّب ارتفاع الأسعار مستقبلاً بسبب ارتفاع سعر الدولار. والتاجر، سواء كان مستورداً أو وسيط بيع بالجملة أو يعمل بتجارة المفرّق، يبيع كلّ يوم بسعر، رابطاً الأمر بتقلّبات سعر الدولار في السوق الموازية. هؤلاء التجّار يلجأون أيضاً إلى التخمين. يعتقدون أن سعر الدولار سيرتفع أكثر فأكثر، فيُمعنون في ممارسة احتكار السلع لبيعها بأسعار أعلى، أو يرفعون الأسعار إلى مستويات توازي الحدّ الأقصى لتخميناتهم على المدى القصير.

53.2 مليار ليرة

هي كمية المبالغ بالليرة اللبنانية التي يطبعها مصرف لبنان يومياً بحسب الميزانية المختصرة الصادرة في 30 نيسان. وقد بلغت قيمة كمية النقد قيد التداول 15,695 مليار ليرة، مقارنة مع 15,163 مليار ليرة في 15 نيسان، أي بزيادة قيمتها 532 مليار ليرة خلال أسبوعين، فيهما 10 ايام عمل، علماً بأن كمية النقد قيد التداول كانت 5562 مليار ليرة في كانون الثاني 2019 وصارت اليوم 15695 مليار ليرة في 30 نيسان 2020، أي بزيادة قيمتها 10,133 مليارات ليرة في 69 أسبوعاً


عملية التخمين مخفّزة بسقوط الثقة بالنظام كلّه. فمصرف لبنان ليس لديه دولارات كافية للتدخّل في السوق دفاعاً عن سعر الليرة. أصلاً ليست لديه النية لذلك مع كلّ التعاميم التي أصدرها بشأن تسعير سحب الودائع في المصارف على سعر 3000 ليرة. بل عمد إلى طباعة المزيد من الليرات لضخّها في السوق من أجل تغطية الدولارات العالقة في المصارف. بمعنى آخر، حوّل الدولارات الموجودة في المصارف إلى دولارات لبنانية، وميّزها عن الدولارات الخارجية أو «الطازجة». بنتيجة تعاميمه أصبح دولار الوديعة (الدولار المقيّد) يساوي 3000 ليرة، فيما دولار القروض يساوي 1500 ليرة. أما الدولار الطازج (الدولار الحرّ) فهو يساوي 4300 ليرة بحسب تسعيرة التداول بين الصرافين والمواطنين. ثمّة تسعيرات أخرى للدولار لا طائل من تعدادها، فالمقصود أن الليرة لم تعد وحدة قياس لتسعير الأصول الثابتة وغير الثابتة، أو على الأقل لم يعد هناك نمط واحد متّبع لقياس الأسعار في الدولة المسمّاة «لبنان».

احذروا تجار العقارات
التبادل بكل هذه التسعيرات ترك فجوة اسنتسابية ضخمة للتجّار ولأصحاب الأصول. قراءتهم لمستقبل سعر الصرف هي التي تحدّد عملية التسعير، متجاهلين عوامل العرض والطلب والحاجة للشراء أو البيع فضلاً عن التطوّرات الأخرى في السوق. تجّار العقارات، على سبيل المثال، حاولوا الاستفادة من هذا المشهد قدر المستطاع. ضخّوا الكثير من الأقاويل عن «أفضل» الحلول لتهريب الأموال من المصارف: «شراء العقارت». فجأة تبيّن أنهم رفعوا أسعارهم بأكثر من 30% لبيع العقارات مقابل شيكات مصرفية بالأموال المقيّدة، فسدّدوا ديونهم المصرفية بكلفة أقل. هم استغلاليون وفاحشون بطبيعتهم. بحسب مصادر مطّلعة، فإن 3 مليارات دولار مبيعات عقارية سدّدت قروضاً مصرفية. خسر المودعون أكثر من مليار دولار بأسعار العقارات المشتراة. الذين اشتروا عقارات لتهريبها دفعوا كلفة الهيركات أكثر من مرّة. مرّة عندما اشتروا عقارات منفوخة الأسعار (أصلاً كانت الأسعار منفوخة قبل الأزمة)، ومرّة ثانية عندما قرّرت الحكومة أن تشملهم بضريبة الهيركات (هذه النقطة ذُكرت في أكثر من مسودة للخطة وشطبت في النسخة الأخيرة منها التي أقرّتها الحكومة على أمل تحسين صياغتها لتكون أكثر انسجاماً مع ما حصل بالنسبة إلى الذين هرّبوا أموالهم إلى الخارج واشتروا فيها عقارات). وسيتضرّرون أكثر عندما يكتشفون أن سوق العقارات المنفوخة الأسعار لا يمكن تأجيرها بسهولة، بل تتحمّل كلفة إضافية سنوية للصيانة والخدمات (خصوصاً العقارات المبنية الباهظة السعر)، بالإضافة إلى صعوبة تسييلها في المستقبل القريب.

شربل نحاس: يتقلّص الاعتماد على النقد كوحدة قياس وإذا استعدنا التجارب السابقة يظهر أنّ التطوّرات المنتظرة خطيرة


إذاً، التخمين يحفّز الأسعار في ظلّ غياب لليرة أو للدولار كوحدة للتسعير. بهذا المعنى، فإنّ عقاراً سعره قبل الأزمة 100 ألف دولار، وبعد زيادة عوامل التضخم عليه بمعدل 53% في 2020 كما توقعت خطة الحكومة، سيصبح سعره بالليرة 350% مما كان عليه سابقاً، لكن السعر الفعلي في السوق بالدولار الطازج أو الحرّ، أي بنفس وحدة القياس التي كان يُسعّر بها سابقاً، يصبح أقلّ بنحو 44%. هذه النتيجة قبل أن تبدأ رحلة شطب الخسائر المصرفية المضمونة برهونات عقارية. 90% من الأصول المصرفية مضمونة برهونات عقارية بحسب صندوق النقد الدولي. إذا بدأت المصارف تنفّذ الرهونات تحصيلاً لديونها، فستصبح الفجوة كبيرة جداً بين العرض والطلب. عرض العقارات سيزداد كثيراً.

سعر الصرف: تقلّبات مستقرّة أو حادّة؟
عملياً، «هذه الفترة قد تقصر أو تطول، إلّا أنه في كلتا الحالتين، ليس بإمكان أي تاجر أو متعهد أن يقوم بالتسعير (سواء للأصول الثابتة أو السلع)» يقول رئيس حركة مواطنون ومواطنات شربل نحاس.
برأيه إن آليات التسعير غير متوافرة، لكن انطلاقاً من قراءة تاريخية لتطوّر سعر الصرف، فإنّ هذا الأمر قد ينتهي على شكلين:
- الاستقرار على نموذج تسعير بعد استقرار الأزمة. هذا ما حصل عملياً في منتصف الثمانينات عندما ارتفع سعر الدولار 150 مرّة خلال فترة قصيرة نسبياً. يومها تطلّب استقرار السعر التحوّل إلى استعمال الدولار كوحدة قياس السلع والأصول المحلّية بدلاً من الليرة. بات التسعير بالدولار. والاستقرار استمرّ من 1987 لغاية 1990. كان هشّاً وسط تقلّبات غير حادة. هذا هو المقصود بالاستقرار، أي إنه لم يقفز فجأة كما فعل في نهاية 1987. لم يأتِ هذا الأمر بكلفة بسيطة فضلاً عن أن «العملة كوحدة قياس انتقلت من الليرة إلى الدولار».
- أن تصبح أداة القياس غير ثابتة أو متحرّكة. بمعنى آخر يصبح التسعير آنياً، ومرتبطاً بالتضخّم المفرط. كل سلعة سيتم تسعيرها يوماً بيوم. هذه العملية تعني أن التضخّم سيتحكّم بالأسعار. يصف أحد الخبراء في مؤسسة دولية هذه الحالة: إن ارتفاع معدلات التضخّم إلى مستويات معيّنة يدفع الأسعار نحو الفلتان لفترة غير محدّدة. التخمين يدفع الأسعار صعوداً، ويعوّضها المصرف المركزي بضخّ المزيد من الليرات ما يخلق طلباً إضافياً على الدولار غير المتوافر أصلاً. التضخّم سيدفع الدولار صعوداً وارتفاع سعر الدولار سيولّد مزيداً من التضخّم. إنها دورة جهنمية. وبحسب نحاس، فإنّ أشكالاً مختلفة من المقايضة تحصل في ظلّ هذه الدورة، فيما يتقلص الاعتماد على النقد كوحدة قياس، وستبقى هذه التقلبات الحادّة في السعر قائمة لغاية استقرار السعر، إنما هذا الاستقرار لا يحصل كما شهدنا في العقود الماضية إلّا بعد قفزات كبيرة هائلة لسعر الصرف وخسائر كبيرة في قيمة العملة.

آليات التسعير
الدليل على تقلّص الاعتماد على النقد كوحدة قياس هو ما يحصل حالياً من استبدال للشيكات العالقة في المصارف بأموال نقدية بأقل من قيمتها الفعلية. فعلى سبيل المثال، اشترى أحد الأفراد سيارة فراري بقيمة 300 ألف دولار وسّدد ثمنها شيكاً مصرفياً من أمواله المقيّدة، وصدّرها إلى دولة خليجية ليبيعها مقابل دولارات طازجة. التاجر استفاد لسداد ديونه في المصرف، وهذا الأخير استعاد بعضاً من السيولة المقيّدة بالدولار. الفرق بين الدولار اللبناني والدولار الطازج بات يفوق 50% في السوق ويتوقّع أن يتطوّر ليصبح 80% أي إن كل 100 دولار عالقة في المصرف تصبح موازية لنحو 20 دولاراً ورقية (طازجة أو حرّة).
ثمة طريقة أخرى بدأت تصبح متبعة لتسعير السلع والأصول. يتم تصنيفها، بحسب الخبير الاقتصادي عبد الحليم فضل الله، تبعاً لقابليتها على التداول. الشيك المصرفي بات سلعة محلية ولم يعد قابلاً للتصدير بعدما بات يخضع للكابيتال كونترول الاستنسابي، لذا باتت قيمته موازية لسعر الأصول غير القابلة للتصدير أيضاً مثل العقارات المبنية وغير المبنية. التسعير يكون على هذا الأساس، أي إنه لا يمكن تسعير الأصول غير القابلة للتداول بالدولار الحرّ، إنما يمكن تحويلها إلى الدولار الحرّ تبعاً لسعر السوق. طبعاً يمكن المبادلة بين السلع القابلة للتصدير، مثل الدولار الطازج، وبين السلع المحلية أو الأصول المحلية المقيدة أو غير القابلة للتداول، فيصبح عندها التسعير مرتبطاً بسعر السوق. إذ لا يمكن مبادلة سلعة حرّة مقابل سلعة مقيّدة بوحدة قياس واحدة. يجب أن تتناسب قيمة السلعة مع خصائصها الفعلية.

دورة جهنمية
بعض هذه التطوّرات، أشار إليها رئيس مركز البحوث والاستشارات كمال حمدان في دراسة أجريت أخيراً للمقارنة بين مؤشر ارتفاع سعر الدولار ومؤشّر ارتفاع أسعار الاستهلاك. تبيّن لحمدان أن تطوّر سعر الدولار بقي موازياً لتطوّر أسعار السلع الاستهلاكية خلال فترة طويلة، إلّا أنه منذ مطلع هذه السنة، بدأ تطوّر سعر الدولار (ارتفاع سعر الدولار) يسبق (تضخّم) أسعار السلع، وهذا يعني أن انعكاس سعر الدولار على أسعار السلع لا يزال في بدايته. فمن المتوقّع أن يبدأ أثر ارتفاع الأسعار بالظهور في الأسابيع المقبلة مع ارتفاعات إضافية.

يمكن تسعير بعض الأصول تبعاً لتصنيفها سلعاً قابلة للتداول أو سلعاً مقيّدة


الأسوأ، أنه ليس هناك طريقة أو آلية تتيح تقدير المدى الزمني لاستمرار هذه الضبابية والدورة الجهنمية للتضخّم المفرط وسعر الصرف. «إذا استعدنا منطق ما حصل في التجارب السابقة فالتطورات المنتظرة خطيرة» بحسب نحاس. ويقول: «لنصل إلى مرحلة الاستقرار في وحدة القياس (العملة) يمكن استعادة ما حصل في الثمانينات والتسعينيات. يومها تطلب الأمر أن يرتفع الدولار إلى مستوى معين حتى يثبت. وفي نهاية كل موجة من ارتفاع سعر الصرف تتدفق مجموعة من الأموال من الخارج لتشتري الأصول بثمن زهيد. هذه الأموال هي التي بواسطتها يتم استعادة ما يسمى الثقة. حتى الآن لم نبلغ مستوى كافياً من ارتفاع السعر (قياساً إلى القراءة التاريخية لنمط ارتفاع سعر الصرف واستقرار تقلباته الحادة) لاستعادة الثقة. على الأقل هذا ما هو واضح في الفترة الواقعة بين منتصف الثمانينيات ومطلع التسعينيات» وفق نحاس.
في ظل هذا السيناريو لا يمكن توقع ما ستكون عليه الحالة الاجتماعية. حتى أن تقديرات الحكومة وخطّتها مع المستشار المالي «لازار» عن تضخّم في الأسعار بمعدل 53% قد تكون مخفّفة. وهذا يسري على تقديرات التقلّص في حجم الناتج المحلي الإجمالي. قد يكون التقلّص أكبر بكثير من هذه التوقعات. هذا يعني مزيداً من المؤسسات التي تغلق والتي تصرف عمّالاً. مزيداً من الفقر ومزيداً من البطالة ومزيداً من الهجرة لمن استطاع إليها سبيلاً. انعكاسات هذا الأمر أمنياً قد تكون مماثلة أيضاً. لكم أن تتخيّلوا ما يحصل لاحقاً إذا لم نخرج سريعاً من هذه الدورة الجهنمية.