«إنّ فكّ الارتباط يعني إجبار الإمبريالية على قبول شروطك أو جزء منها. عندما يتكلم البنك الدولي حول الإصلاح الهيكلي، يكون لديه رؤية أحادية الجانب حول الإصلاح الهيكلي، بأنه هو من يحدّد السياسة. وفكّ الارتباط يعني تحديد سياستك الخاصة»
سمير أمين، من مقابلة صحفية



يشترط سمير أمين على البلدان المتخلّفة، إذا أرادت الدخول في طريق التنمية المستقلّة، ضرب شكل من أشكال العزلة الاقتصادية (عزلة بعض القطاعات الاقتصادية أو أغلبها). تتمثّل هذه العزلة بوضع حدّ من حدود الانخراط في السوق الرأسمالية العالمية لتتمكّن الدولة من حماية الصناعات الناشئة في البلد المعني. هذا ما أطلق عليه أمين «فكّ الارتباط». أما في الواقع المعاش، فلدينا تجربة الصين، التي تُمارس في شكل من أشكال فكّ الارتباط يصفه أمين، بأنه «جزئي» (رغم وجود الكثير من القطاعات الاقتصادية «السيادية» التي يُحظر الاستثمار الأجنبي فيها، كالدفاع والبنية التحتية والاتصالات... إلا أن هناك قطاعات أخرى تُركت أبوابها مفتوحة لاستقبال الاستثمارات الأجنبية من دون قيد أو شرط).

(إنريكو بيرتوشيولي ـ إيطاليا)

وقد لعب «فكّ الارتباط الجزئي» في الصين، دوراً أساسياً في تحقيق التنمية والسير في هذا الطريق الشاقّ والمكلف. لكن المبهر في التجربة الصينية هو ليس تحقيق التنمية فقط، بل يتجلّى ذلك في تحقيق اختراق متأخّر (زمنياً) من قبل بعض المنتجات الصينية، للأسواق العالمية الاحتكارية. فكما نعلم، عندما تكون السوق محكومة بشركات احتكارية كبرى تكاد أن تُعدّ على أصابع اليد الواحدة (احتكار القلّة)، فإن حرية الدخول والخروج من وإلى السوق تصبح مقيّدة. ويصبح مستحيلاً، القبول بشركة احتكارية جديدة تريد أن تتقاسم أرباح هذه السوق مع الشركات الاحتكارية الأخرى وتسبّب لها الخسائر. إلا أنه رغم ذلك، استطاع عدد كبير من الشركات الصينية، سواء المملوكة من الدولة، أو من أفراد، خرق الأسواق الاحتكارية العالمية، وآخرها كان شركة «كوماك» لصناعة الطائرات المدنية.
في ما يلي سنعرض الاستراتيجية الاقتصادية التي من خلالها سجّلت الشركات الصينية خرقاً للأسواق العالمية الاحتكارية. ورغم كثرة الشركات الصينية التي حققت ذلك، إلا أن نموذج «هواوي» هو الأكثر تعبيراً عن هذه الاستراتيجية، ولا سيما نظراً إلى العقوبات التي فُرضت عليها أخيراً في عام 2019 والتي سوف تفيد في تقديم نموذج لـ«فكّ الارتباط الجزئي» الصيني، ونظراً إلى المكانة التي حازتها علامة الشركة التجارية على مستوى العالم، ونظراً إلى شهرتها وإلى تعاطي مواطني بلداننا العربية مع منتجاتها.

فكّ الارتباط الجزئي والاقتصاد نصف المفتوح
قد تصعب مناقشة الأسباب الجيوسياسية والاقتصادية للانفتاح الصيني الجزئي على السوق العالمية، إلا أنه عند دراسة الانفتاح بغرض نمذجته لا تأريخه، يمكننا اعتبار هذه الأسباب قضايا ثانوية لا يؤثّر تجاهلها على تقديم النموذج. فالمهم هو أن الانفتاح كان تدريجياً ومحكوماً بالكثير من الشروط التي حدّدتها الدولة الصينية، والتي لعبت دوراً هاماً في قيادة التنمية، وتعزيزها لاحقاً. أهم هذه الشروط - نذكر ما يفيد هذا العرض - هو السماح للصينيين تطبيق ما يسمى «الهندسة العكسية»؛ أي السماح بالإطلاع على الآلية التقنية لجهاز أو نظام، ثم تحليله ومعرفة طريقة عمله بهدف إعادة تصنيع نظام أو جهاز مشابه للنظام أو للجهاز الأصلي ليؤدّي الوظيفة ذاتها (من هنا بدأت رحلة «صُنع في الصين» أو Made in China). ورغم أن «الهندسة العكسية» هي التي سمحت للصين، البدء بالابتكار التدريجي الذي يسعى اليوم إلى التحول إلى ابتكار جذري، إلا أن ما نتج منه من شركات صينية محلية، لا يكفي وحده للتوسّع في السوق الداخلية باعتبار أن الجهاز الأصلي حاضر في السوق الصينية، وبالتالي هو غير كاف أيضاً لدخول السوق الخارجية. هنا تأتي أهمية المزيج التسويقي الذي اتبعته شركة «هواوي» والعناصر التي تم التركيز عليها للتوسع داخلياً ثم خارجياً.

المزيج التسويقي: عن الـ 7P’s والـ 4P’s
في الرأسمالية التنافسية كان النشاط التسويقي يقتصر فقط على الدعاية التي تتم بعد العملية الإنتاجية. فلم يكن النشاط التسويقي ذو أثر مهم. أما في الرأسمالية الاحتكارية فقد طرأت تغيرات شكلية وجوهرية على عملية الإنتاج ككل. فمن الناحية الجوهرية بات النشاط التسويقي هو العنصر الأهم في عملية الإنتاج. أما من الناحية الشكلية فقد بات النشاط التسويقي يتموضع قبل العملية الإنتاجية وما بعدها. أي من لحظة طرح السؤال «ماذا ولمن ننتج؟» وصولاً إلى «خدمات ما بعد البيع» (بول باران، بول سويزي، رأس المال الاحتكاري). وهنا لا بد من تعريف بسيط للمزيج التسويقي: «هو مجموعة نشاطات تهدف إلى توفير المنتج المناسب في المكان والزمان المناسبين وإيجاد الوسائل الفعالة للترويج له. وهناك سبع عناصر للمزيج التسويقي تسمّى بالـ 7P’s. أربعة منها هي عناصر رئيسية، وتسمى بالـ 4P’s، ونذكرها بالتتالي تبعاً لأهميتها: 1- تخطيط المنتج (Product)، 2- تخطيط السعر (Price)، 3- الترويج (Promotion)، 4- المكان (Place). أما العناصر المتبقية فهي: 5- الأفراد (الناس) People، و6- عمليات الحصول على المنتج أو الخدمة (Process)، و7- الأدلة الترويجية المادية (Physical evidence).

مزيج تسويقي لاقتصاد نامٍ: STP
في البدء، أدركت شركة «هواوي» أنها لن تستطيع منافسة الشركات الكبرى المتعدّدة الجنسيات. وأن الحرب التكنولوجية لتقديم «الأفضل» بين الشركات الكبرى كانت طاحنة. وأن المنتجات التي ستقدمها، والتي تقوم على أساس الهندسة العكسية، لن تكون أفضل من الأصل. إلا أن هناك عاملان مهمان أُخذا في الاعتبار:
1- أسعار الشركات الاحتكارية الكبرى التي كانت توضع من قبل الشركات (هذه سمة الرأسمالية الاحتكارية؛ توضع الأسعار من قبل الشركات ولا تُترك لتتحدّد في السوق من خلال العرض والطلب. بل على العكس، قد تعيش السوق في حالة ندرة مصطنعة لإيهام الجمهور بأن الطلب يفوق حجم العرض بكثير).
2- نظراً إلى ارتفاع الأسعار، وارتفاعها بشكل مطّرد كلما تطورت المنتجات عند الشركات الكبرى، كان هناك الكثير من أسواق دول الأطراف بعيدة كل البعد عن الاستهداف لجهة النشاط التسويقي للشركات الاحتكارية، حيث يعتبر اقتناء أجهزة الشركات الكبرى ذات العلامات التجارية الشهيرة ضرباً من التفاخر والمباهاة (سلع المفاخرة هي التي تقتنى ليس بهدف استخدامها واستعمالها هي ذاتها بشكل رئيسي، بل للمفاخرة فقط. ساعات «رولكس» مثلاً).
على هذين الأساسين الموجودين لدى الشركات المنافسة (الأسعار المرتفعة، ووجود أسواق غير مستهدفة) قامت شركة «هواوي» بإعطاء الأولوية لعنصرين هامين من عناصر التسويق الأساسية في مجموعة الـ 4P’s، ألا وهما تخطيط السعر والمكان. ولتحديد السعر والمكان الذين يمكن من خلالهما تحقيق النموّ، كان لا بد من الاعتماد على نموذج STP الذي يتألف من ثلاث خطوات يمكن من خلالها الوصول إلى الشريحة الاستهلاكية الأفضل. واسمه اختصار لكلمات ثلاث: 1- Segmentation: تجزئة السوق إلى شرائح. 2- Targeting: استهداف الشرائح المعينة بالمنتجات المناسبة (لكل شريحة منتجات تتوافق مع متطلباتها). 3- Positioning: طريقة عرض المنتجات لجمهور كل شريحة. وبعد تطبيق النموذج وجدت شركة «هواوي» أن الأسواق الناشئة في بلدان العالم المتخلّف هي المكان الأنسب لبدء الدخول في طريق النمو، ولزاماً عليها أن تنتج منتجاتها بجودة مناسبة وبأسعار زهيدة لا تقارن مع منتجات الشركات الكبرى بالنسبة إلى الشريحة المستهدفة.

«هواوي» العالمية واستراتيجية «حصار المراكز بالأطراف»
عندما حققت «هواوي» انتشاراً واسعاً في الأسواق الناشئة وحقّقت نمواً جيداً، انتقلت نحو الابتكار الجزئي. وهذا يعني أنها لم تتخلَّ تماماً عن «الهندسة العكسية» بل بدأت تعتمد على ذاتها في تقديم ابتكارات جزئية تضاف على المنتجات. وأدركت أنها في طريقها للانتقال من الابتكار الجزئي إلى الابتكار الجذري. وفي هذا الطريق بدأت الحصّة السوقيّة تزداد وتلقى منتجاتها رواجاً في أسواق جديدة. فقد باتت تقدم منتجات تعدّ منافسة لمنتجات الشركات الاحتكارية الكبرى إذا أخذنا في الاعتبار ثلاثة عوامل: الجودة، الجوانب التقنية، والأسعار الزهيدة.
في السنوات السابقة لعام 2019 فرضت «هواوي» على الشركات الكبرى خفض أسعارها وعلى هذا الأساس فُرضت العقوبات

بينما اقتصرت المنافسة بين الشركات الاحتكارية الكبرى على جانب الجودة والجوانب التقنية فقط ولم تدخل في المنافسة السعرية. واستمر رواج منتجات «هواوي» المترافقة مع تطوّر تقني، وتحسن في الجودة، واستمرار تقديم أسعار تنافسية زهيدة حتى صارت تنافس منتجات الشركات الكبرى وصلت هذه المنتجات إلى بلدان المراكز (أوروبا والولايات المتحدة). إن اشتراط العالمية كان يعني دخول السوق الأميركية (الولايات المتحدة)، حيث أطاحت «هواوي» بعرش العملاق التكنولوجي «آبل» لتحتلّ المركز الثاني بعد شركة «سامسونغ» في عام 2018.

حرب التكنولوجيا الفائقة وفكّ الارتباط
بعد عام واحد من إطاحة شركة «هواوي» لعملاق التكنولوجيا الأميركي (آبل)، وبعدما كانت منتجات «هواوي» تصل إلى 170 دولة حول العالم، فرضت الولايات المتحدة العقوبات على الشركة الصينية. وإذا نحينا ادعاءات الجانب الأميركي المتعلّقة بالأمن القومي الأميركي وقضايا التجسس (وليس لدينا دليل على مدى مصداقية هذه الادعاءات ولا نملك الثقة بالجانب الذي أصدرها)، فإن الأسباب الاقتصادية واضحة تماماً: في السوق الاحتكارية تُحظر المنافسة السعرية باعتبار أن أي خفض للأسعار سيكون غير محبّب كونه يؤدّي إلى حرب سعرية تؤدي بدورها إلى خسائر تصيب جميع الشركات. فماذا لو قلنا أن شركة «هواوي»، وفي السنوات السابقة لعام 2019، كانت تجبر الشركات الكبرى على خفض أسعارها، وأنه على هذا الأساس الاقتصادي فُرضت العقوبات. ورغم العقوبات، وحرمان الصين من أشباه الموصلات المتطوّرة من الأجيال الجديدة، اتّضح أن «فكّ الارتباط» شبه الكامل كان مستحيلاً في الماضي. أما اليوم فهو مشروط بتحقيق الصين للابتكار الجذري الذي قد يحتاج عقوداً عدّة. إذ جاء في تصريح متلفز لمالك الشركة «رن تشن فاي» أن الابتكار الجذري الذي تسعى إليه الصين لن يبدأ في شركة «هواوي»، بل عليه أن يبدأ من الجامعات الصينية. وهذا ما سيحتاج إلى ثورة في القطاع التعليمي تدعو إلى الابتكار والإبداع والتطوير.
رغم كل ذلك يبقى خرق شركة «هواوي» مثالاً يحتذى به، إذا ما قرّرت شعوب بلدان العالم المتخلّف النهوض كل باقتصاده، وإعادة توجيهه توجيهاً شعبياً مناهضاً للإمبريالية العالمية.