لم يكن يخطر في بال أكثر المتشائمين أن تكون دمشق في أسبوع الميلاد ورأس السنة بهذه القتامة! لم يكن يتخيّل عاقل أو مجنون، بأن تتحوّل الشام بروحانيتها وتاريخها الطويل من غزل كلّ شعراء الأرض الذين زاروها، إلى مدينة تصفر فيها الريح، فتسمع الشوارع الخاوية.... كأنّها مقبرة لا تعرف إلا أن تحتفي بالأموات! لكن مهلاً، حتماً لن ينفع مثل هذا المزاج، لمن يسلك طريق «مسرح الحمراء» كي يحضر حفلة المغنية الشابة ميرنا ملّوحي برعاية وزارة الثقافة (مديرية المساح والموسيقى). تشير عقارب الساعة إلى السادسة مساء وبضع دقائق، ننتظر وفداً روسياً لم يأت. لذا سيأخذ فريق الحفلة إشارة للبدء. أولاً تدخل الفرقة بملابس سوداء رصينة. تغزو المسرح بجلبة عفوية تشبه إيقاع طلّاب المدرسة وهم يقصدون حصّة الفنون المفضلة! يحيّي المايسترو كمال سكيكر جمهوره، ويشير إلى فرقته «قصيد»، قبل أن يصطحب المغنية الشابة السمراء! تطلّ بفستان أخضر غامق. تبدو متفتحة مثل زنبقة وسط الثلج! تبتسم قبل أن تتحول ابتسامتها إلى ضحكة في وجه الجمهور. ينبعث صوتها بدفق متصاعد. لم تكن ميرنا ملّوحي تغني في تلك الليلة. كانت تنبش في ذاكرة الطرب الأصيل. عثرت على بضع أغنيات كادت أن تندثر وأعادت إحياءها. هنا فقط يتوهّج محمد عبد الوهّاب برائعته «مضناك جفاه مرقده» وهنا تحيى أم كلثوم مجدداً بـ «درات الأيام» وفي أفضل الأحوال وأكثرها حداثة ستغني لطيفة «أمنلي بيت». انقضت الساعة سريعاً. لم نلمح الوقت، ولم نأخذ ولو نفساً قصيراً يساعدنا على عدّ الأغنيات وترتيبها من جديد. ستعدو المغنية كأنها تريد أن تهرب لتقول لنفسها إنها نجحت. تعيدها نداءات المصورين لالتقاط صور تذكارية! بعدها تختفي في الكواليس، لينهمر الجمهور الذي كان في الصالة كأنه يريد أن يقول: نعم لقد استمتعنا. نقدياً يمكن القول بأن صوت ملوحي لا يملك مقدرات هائلة، أو قوة كبيرة. كذلك لم تسلك طرق برامج المسابقات التي تصنع نجوماً بظرف أسبوع. اكتفت بدفء صوتها وعمقه وإحساسها العالي، وتناغم صوتها مع حركة جسدها عندما تسلطن! صوتها بهويته والكاريزما التي يتسم بها لا يحتاج مقدرات ولا قوة، مطربات خالدات كنّ كذلك!
عموماً لمن لا يعرف ملّوحي هي ابنة «وادي النصارى» حيث يتربع سحر الطبيعة ليقتنص حصة المشهد كاملة، وحيث البيئة الجميلة تكوّن شخصيات أبنائها. هناك، فتحت المغنية السورية الشابة عينيها على تراكمات بصرية شكّلت ذاكرتها، وأسهمت في تأسيس ثري لذائقتها الفنية، وسط مجتمع منفتح يخلق من الطقوس الاعتيادية حالة مهرجانية تدار وسط قالب اجتماعي احتفالي، يمكن الحديث عنه درامياً، بصورة شيّقة. وعلى الرغم من دراستها للأدب الإنكليزي، إلا أنّها راحت نحو تلمّس موهبتها الصوتية بأداء التراتيل الدينية أوّلاً، ثم إعطاء شكل أكاديمي واحترافي لهذه الموهبة من خلال دراسة الصولفيج والغناء الشرقي على يد أساتذة «المعهد العالي للموسيقى». بعدها، جرّبت التعاون مع أعضاء فرقة «طرب دهب» التي يقودها المايسترو براق تناري، لتكون النتيجة مجموعة حفلات في المراكز الثقافية و«دار الأوبرا». أما على مستوى فردي، فقد أنجزت ملّوحي أغنيات وطنية وكلاسيكية، وجرّبت مراراً تطويع السوشال ميديا لبناء حضور جماهيري من خلال غناء أيقونات الطرب العربي بدون موسيقى.