حجارة فوق حجارة. لا شيء يجعلها جداراً سوى ثقل الجاذبية، ولا شيء يربط بعضها ببعض. من ثُغَرِها يمكن رؤية مَن في داخل الغرف، التي بالكاد تشبه الغرف، ومن بابها، أو بالأحرى، لوح الخشب، أو الكرتون، أو الإسفنج، يمكن الدخول إليها بسهولة. هكذا تحوّل مرأب مبنى سكني في بلدة كسروانية قريبة من الساحل إلى مأوى لعدد من العائلات السورية النازحة. هذا الواقع لا يشكل استثناءً، لكنه ـ بالطبع ـ مثال آخر على الحالة غير الإنسانية التي يعانيها آلاف السوريين النازحين إلى لبنان.
على مدخل الشارع، عُلقت لافتة كبيرة تعلن وجود «شقق فخمة للبيع والإيجار»، تتجه نحوها لتجد مشهداً قد لا تتوقعه هناك بالذات: أطفال يلعبون بألواح البلاط التي كانت ستصبح يوماً ما أرضية لموقف السيارات ــ منزلهم، ومن حناجرهم تخرج صيحات الطفولة لتنسيهم برد الليل القارس وقلّة الملابس الشتوية التي تغطي أجسادهم. هؤلاء الذين تخلوا في معظمهم عن مقاعد الدراسة بسبب ارتفاع أسعار التنقلات إلى المدارس الرسمية، وبسبب بعد المنطقة عن أي وسيلة نقل عام، يرشدونك سريعاً إلى فراس، الشاب الذي يسكن مع ابن عمّه في أحد تلك «المنازل». لا يتردد فراس لحظة في دعوتك للدخول إلى «شقته»، حيث لا وجود لأي كرسي. وسيلة التدفئة الوحيدة هناك: البطانيات.
يشرح فراس بشأن توزع النازحين في ذلك المبنى، فيقول: «نحن مقسومون إلى قسمين. فالذين يعيشون فوق (أي في الشقق غير المنجزة)، هم الذين تسمح لهم حالتهم المادية بذلك، أما نحن الذين نسكن في المرأب أو في البهو، فلا يمكننا دفع التكاليف الباهظة». ويضيف مازحاً: «اللي فوق معلمين، نحن عمال. هذه قدرتنا».
فراس، الذي استمرّ بالذهاب إلى جامعة حمص سعياً منه إلى إكمال سنته الرابعة في الحقوق، تحوّل اليوم إلى عامل بناء، وهو سعيد جداً لأنه تمكن من الحصول على فرصة عمل تسمح له بالعيش في كرامة. أما هاني، ابن الثامنة عشرة، الذي تحوّل بغضون أيام قليلة من تلميذ إلى المعيل الوحيد لعائلته المؤلفة من 4 إخوة إلى جانب والدته ووالده وجده وشقيق جده، فهو جار فراس، ويشاطره جدار «الأحجار» المتراصّة ذاته، لكن غرفته ــ رغم جمعها عدداً أكبر من الأشخاص ــ هي أصغر بكثير. يعمل هاني اليوم في محلّ لبيع القماش، ويروي مغامراته لدى عودته إلى منزله ليلاً عندما يجبر على التأخر في عمله. فالبلدية حيث يسكن هي إحدى البلديات الكثيرة التي فرضت حظر التجوال على «العمال الأجانب»، بمعنى آخر، على النازحين السوريين، بين الثامنة مساءً والسادسة صباحاً، «حفاظاً على السلامة العامة». لذلك، يجبر هاني على العودة خلسةً إلى ذلك المرأب، ويقول: «ضُربت مراراً، وسحبوا مني دراجتي النارية، ولاحقني الدرك والشرطة لأنني خالفت هذا النظام، لذلك أتجنب خرق حظر التجوال قدر المستطاع».
أما فراس الذي «لا يريد المشاكل ووجع الرأس»، فيعود مباشرة إلى منزله بعد انتهاء عمله ويبقى فيه حتى اليوم التالي، ويرى أن هذه اللافتات التي تحظر عليه التجوال لا تستفزه؛ «لأن من حق أبناء المنطقة أن يخافوا، وشؤون منطقتهم تعنيهم، ونحن لسنا هنا لإحداث أي مشكلة، بل للهرب من ظروفنا الصعبة».
في ذلك المكان، ينقص الكثير من مستلزمات الحياة الكريمة البسيطة، لكنّ أمراً واحداً لا يغيب عن وجه مستقبليك: الابتسامة المرحبة. تستقبلك سلام في غرفتها التي تعيش فيها مع أولادها وزوجها، وهو من ذوي الحاجات الخاصة. أتت سلام من حلب بعد إنذارها بمغادرة المدرسة التي لجأت إليها مع أسرتها في سوريا. توضح أنها كانت تبحث عن مكان أكثر أمناً لأبنائها، فقال لها البعض إن في تلك البلدة شققاً رخيصة للإيجار. وتضحك ساخرة وهي تنظر إلى جدران ذلك المكان حيث تعيش اليوم، وتقول: كيف يسمّون هذا المكان «شقّة»؟ في ذلك المرأب 7 عائلات تعاني ظروفاً متشابهة، ويراوح إيجار كل غرفة بين 150 إلى 250 دولاراً. أما في البهو، حيث ترتفع نسبة الرطوبة وتغيب أشعّة الشمس، فيراوح الإيجار بين 300 و 350 دولاراً شهرياً. وهناك تعيش ثلاث عائلات: واحدة مؤلفة من 6 أشخاص، وأخرى من 12 شخصاً وأخرى من 5 أشخاص، في غرف صغيرة استحدث فيها مطبخ صغير.
أحد أبناء «الطوابق الفوقانية»، حيث يتجمع «إقطاعيو المبنى»، كما يسميهم فراس بنوع من الفكاهة، أوضح أن القاطنين في الشقق «إما لديهم القدرة المادية، وإما حالتهم صعبة، لكن أولادهم يعملون في الورش، ما يسمح لهم بالسكن في شقق فعلية». لكن داخل تلك المنازل، تغيب أيضاً مستلزمات الحياة البسيطة، فتجد فرشاً ممدودة على الأرض، تشكل أريكة في النهار وسريراً في الليل، وألواحاً إسفنجية مضغوطة تجزّئ الغرفة إلى غرفتين مفصولتين، فتعيش في كل منزل عائلتين على الأقل. تؤوي الجدران القاطنون في حماها من البرد القارس.
سلام، المقيمة في المرأب، لا تجد أي وسيلة لتدفئة أولادها سوى ضمهم إليها ليلاً. ومن حسن حظها، أنها أتت من سوريا ومعها سجّادة تستخدمها اليوم كأرضية لمنزلها بدلاً من أرضيّة الإسمنت. تؤكد سلام أن وضعها أفضل بكثير من أوضاع أولئك الموجودين في الخيم، وتقول: «هنا لا أحد يتحرش بنا وبأولادنا، ورغم وضعنا الصعب، فإننا نعيش بأجمعنا كجيران وكعائلة».
الجيران في «المباني الفخمة» المجاورة، انزعجوا من ضجيج الأولاد الذين يلعبون في باحة منزلهم، وعبّروا مراراً عن تذمرهم. فهم دفعوا المبالغ الباهظة ليبتعدوا عن مثل هذا الضجيج، لكن سلام تتساءل: «كيف يمكننا أن نجمع أولادنا بين أربعة جدران؟ فالأولاد يريدون أن يلعبوا، وهم لا يذهبون إلى المدرسة»، وتؤكد أنها تسعى دائماً إلى عدم الاحتكاك مع قاطني المباني المجاورة لأنها تريد فقط «السترة لا المشاكل».
وليس بعيداً عن ذلك المكان، مبنى آخر قيد الإنشاء، تسكن فيه أيضاً عائلات نازحة بأسعار باهظة تصل إلى 500 دولار شهرياً مقابل مطبخ وغرفة، ليس لديها الحد الأدنى من شروط السلامة العامة؛ لأن كل شيء صامد بحذر ويكاد ينهار. هناك خشبة تسند الحائط، وشباك مشرّع، ألصق أهل البيت به ورق نايلون لرد الهواء عنهم. تقول فاطمة إن هذا المبنى، رغم خطورة العيش فيه، أفضل بمئة مرّة من القصف والدمار. وهنا أيضاً يتكرر المشهد نفسه، وحدها الأسماء والتفاصيل تختلف.
هكذا، يسهل الحديث عن أرقام النازحين ببرودة، ويسهل التنظير بسبل إيجاد الحلول لوضعهم المعيشي، لكن خلف كل رقم يُرمى بخفّة هناك قصّة إنسان: طالب، أم، عاجز، كهل... قصّة نازح يعيش الذل بكل ألوانه.