من يطلع على قرارات أول قمة افتراضية لمجموعة الدول العشرين برئاسة السعودية وتأكيد قادتها التزامهم بالتعاون وتوحيد الجهود في مواجهة جائحة «كورونا»»، وأنهم يدرسون ضخّ خمسة تريليونات دولار لمواجهة تداعياتها، يظن للوهلة أننا أمام يقظة غير مسبوقة للضمير العالمي، عابرة للحدود القومية، وللانقسامات والصراعات التي تجتاح المعمورة، للتصدي لخطر وجودي على البشرية جمعاء. قد يتعزّز هذا الظن بعد قراءة تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مكالمته الهاتفية الأخيرة مع «صديقه» ونظيره الصيني شي جينبينغ، والتي يمتدح فيها طريقة تعامله مع الجائحة، ويؤكد أن بلديهما يعملان معاً «بشكل وثيق» خاتماً بـ«الكثير من الاحترام». الرئيس الصيني دعا من جهته إلى اتحاد البلدين، لا أقلّ، للقضاء على الجائحة. ولا شك في أن تداعيات الجائحة الكارثية الحالية، والمستقبلية غير القابلة للاستشراف الدقيق بعد، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي السياسية، خاصة بالنسبة إلى النخب الحاكمة في «ديمقراطيات السوق العريقة»، قد تدفعهم إلى قدر من التعاون، في مجالات محددة، مع الخصوم أو حتى الى تجميد مؤقّت لبعض الصراعات، للتركيز على أولوية مواجهتها. ويرتبط هذا الأمر بالطبع بضرورة مجاراة هذه النخب لحالة الهلع العامة السائدة في أوساط شعوبها أمام تحدّ لا مثيل له في العصور الحديثة. فالأزمات الاقتصادية والانهيارات المالية، وكذلك الأزمة البيئية المتعاظمة، لم تشكل خطراً مباشراً على حياة الأفراد والجماعات كما هو الحال مع الجائحة الراهنة. لكن سلسلة من المواقف والقرارات والتطورات تُظهر إلى الآن طغيان منطق الصراع على مزاعم التعاون لدى الإدارة الأميركية، وسعياً محموماً من قبلها لاستغلال الجائحة ومفاعيلها حيث تستطيع ذلك، لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية تنسجم مع أجندتها السابقة. هي قد تجنح إلى تسويات مؤقتة تحت ضغط موازين القوى مع البعض، كالصين مثلاً، بينما تمضي في حربها الدينية ضد البعض الآخر، وفي مقدمتهم إيران.تصريح مديرة صندوق النقد الدولي عن دخول العالم في مرحلة انكماش وعن حاجة الأسواق الناشئة إلى أكثر من 2,5 تريليون دولار، وقبله الإعلان عن إصابة رئيس وزراء بريطانيا، داعية نظرية «مناعة القطيع» للتعامل مع جائحة «كورونا»، بوريس جونسون بالفيروس، لن يكونا آخر الأخبار المقلقة بالنسبة إلى من اعتقدوا في زمن مضى أن باستطاعتهم البقاء سادة دائمين للعالم. ستتوالى الأخبار والمستجدات التي تتراوح بين تلك المزعجة والأخرى المقلقة، وحتى المرعبة، بالنسبة إليهم، ما سيفرض عليهم مراجعة العديد من سياساتهم وحساباتهم، ولو على المدى القصير، وإيلاء التصدي للجائحة الأهمية التي تستحق. لكن طبيعة ومدى هذه المراجعة غير واضحين إلى الآن. الرئيس الأميركي، ورغم كلامه الأخير الودّي حيال الصين، بعد أن كان قد وصف قبل أيام قليلة «كورونا» بـ«الفيروس الصيني»، لم يعلن حتى اللحظة وقفاً للحرب التجارية معها، لكي تستطيع الدولتان التعاون بالفعل في الظروف الحالية. يعود السبب في ذلك برأي بول بيلار، الباحث في مركز الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون بعد أن خدم لمدة 28 عاماً في الأجهزة الأمنية الأميركية، في مقال نشره على موقع «ريسبونسيبل ستايتكرافت»، إلى تحكّم «المزايدات القومية الضيقة الأفق، والتي يشكل تصاعدها أكثر التطورات سلبية في السياسة الدولية في السنوات الأخيرة، بالسياسات المعتمدة للتعامل مع الجائحة... قد تكون أبرز النتائج السياسية للجائحة غير ما يفترض أنه درسها الأهم: حقيقة أن المواجهة الناجحة لها، كخطر لا يقف عند حدود جغرافية، تتطلب تعاوناً دولياً واعترافاً بأن الإنسانية بأكملها مهدّدة».
نواة الإدارة تعتبر أن ما يُصيب الإيرانيين هو عقاب إلهي لهم على عدائهم لإسرائيل


غير أن المزايدات القومية، الناجمة أساساً عن حسابات انتخابية هدفها كسب أوسع تأييد ممكن بين أوساط الرأي العام الأميركي وقطاعاته المختلفة، لن يكون لها تاثير إيجابي عليها عندما تتحول الولايات المتحدة إلى البلد الذي يُسجل فيه أعلى عدد من الإصابات بفيروس «كورونا» مع أكثر من 100 ألف مصاب. وإذا أُخذ في الحسبان الارتفاع المتزايد لعدد الوفيات بسببه، كما هو الحال في إيطاليا، حيث وصل إلى نحو ألف شخص في يوم واحد، فإن انعكاسات هذا الواقع على موقف القطاعات المذكورة من الأطراف الحاكمة التي تعاملت باستخفاف مع الجائحة حتى فترة متأخرة جداً، وهو ما فعله ترامب وفريقه، ستكون في غاية السلبية. قد تحفّز هذه المعطيات الرئيس الأخرق على محاولة التهدئة مع الصين في مرحلة قادمة، لكنه سيستمر في مساعيه لتوظيف الجائحة في إطار سياسة «الضغوط القصوى» التي يعتمدها ضد إيران.
وعلى العكس من الرؤية التي قدمها رئيس مجموعة الأزمات الدولية روبيرت مالي والباحث الإيراني علي واعظ في مقال مشترك على موقع «فورين بوليسي»، بعنوان «جائحة كورونا فرصة دبلوماسية للولايات المتحدة وإيران»، والتي توصي باستفادة طهران وواشنطن من حالة الطوارئ في حقل الصحة العامة على صعيد عالمي لإظهار حسن النوايا المتبادلة، وتخفيض التوتر وتجنّب مواجهة خطرة، تراهن إدارة ترامب على خنق إيران تماماً وربما حتى على التسريع بانهيار النظام بسبب تفاقم مفاعيل الجائحة والحصار والعقوبات. نواة الإدارة، التي تتولى الإشراف على الملف الإيراني، تخوض في الحقيقة حرباً دينية ضد طهران وتذهب إلى حد اعتبار أن ما يُصيب الإيرانيين من مآسٍ وويلات هو عقاب إلهي لهم على عدائهم لإسرائيل ومعارضتهم للسياسة الأميركية. لن يُزعزع مرتكزات هذه المقاربة سوى تطورات ميدانية في الإقليم، وأهمها استهداف قوات الاحتلال الأميركي في العراق والمنطقة. عندما ستشاهد هذه النواة، ومعها غالبية الأميركيين، نعوش جنودهم العائدة من العراق، في ظل تعاظم جائحة كورونا وما يستتبعها من كوارث، ستضطر للتراجع مهزومة وذليلة.