بعد اسابيع من المماطلة، تمكنت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من التوصل الى اتفاق لتجاوز التناقضات في ما بينها. فمنذ بداية جائحة «كورونا»، أدت السياسات الأنانية وعرقلة بعض دول الاتحاد تصدير معدات طبية اساسية الى اسبانيا وايطاليا، وتقاعس البنك المركزي الأوروبي عن القيام بدوره الى تفاقم الخلافات بين شمال اوروبا وجنوبها.آخر آذار الماضي، تحرك البنك المركزي وخصص صندوق دعم مالي بقيمة تريليون يورو تقريبا لمساعدة البنوك الأوروبية واتفق وزراء مالية الاتحاد من جهتهم في 9 نيسان الجاري على انشاء صندوق تضامني للمساهمة بتجاوز دولهم للكساد. ووفقا لهذا الاتفاق، فان 240 مليار يورو من أصل الـ500 المقررة ستخصص لمعالجة التداعيات المباشرة وغير المباشرة للأزمة، و200 مليار يورو لمساعدة الشركات و100 مليار ستستخدم لتمويل رواتب البطالة الجزئية. سمح الاجماع، في ظل أزمة صحية لا سابق لها، بتفعيل آلية الاستقرار الأوروبي - التي وجدت في الأصل لمساندة دول الاتحاد التي تعاني من أزمة مقابل التزامها باجراءات تقشف - من دون شروط بالنسبة لمجمل الانفاق الخاص بقطاع الصحة. غير أن هذه الدول لم تستطع التفاهم على مسألة الاستدانة المشتركة، البالغة الأهمية، والتي تفترض انشاء الـ«كورونابوند» لتمويل عمليات الاقتراض.
ستضطر بلدان أوروبية عدة، للتصدي للجائحة، للجوء الى استدانة طويلة الأمد، قد تصل قيمتها، حسب تقديرات رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، الى ما يوازي 19% من الناتج المحلي الأوروبي، من دون سداد خدمة الديون لسنوات طويلة. لكن آلية لتجميع الديون عبر صيغة الـ«كورونابوند» كانت ستسمح للبلدان التي تعاني ظروفا صعبة - كاسبانيا وايطاليا - بالاقتراض مع فوائد تفاضلية باسم الاتحاد الأوروبي. ويرى بعض المراقبين ان هشاشة القطاع الصحي في دول الجنوب الأوروبي تعود أصلا الى الأزمة الاقتصادية التي عصفت بها بين 2008 و2018. فسياسات التقشف التي فرضت على اليونان والبرتغال واسبانيا هي التي تسببت بهذه الهشاشة. تفشت الجائحة في سياق تداعت فيه البنية التحتية الصحية لهذه البلدان نتيجة التزامها بالقيود المشددة على ميزانياتها وبتلك الخاصة بديونها عملا بتوصيات الاتحاد الأوروبي. وبما أن هذه السياسات والقيود المفروضة من أوروبا من بين العوامل التي زادت من حدة أزمتها الصحية الحالية، توقعت هذه الدول موقفاً تضامنياً من الأخير يترجم من خلال آلية للاقتراض الأوروبي. لكن اقتراحاتها في هذا الاتجاه جوبهت برفض كامل من قبل بلدان كألمانيا وهولندا، التي اعتبرت أنها توازي عملية نقل لمبالغ ضخمة من الشمال الى الجنوب بأكلاف بخسة. وبالفعل، فان اعتماد آلية الـ«كورونابوند» كان سيتيح لدول كاسبانيا وايطاليا الاستدانة باسم أوروبا، بمعدلات خدمة منخفضة لأن الدين الأوروبي لا تترتب عليه مخاطر بسبب المتانة المالية لعدد من دول الاتحاد، والحصول على مبالغ ضخمة تتجاوز قدرتها على الاقتراض كل من جهتها، لتلبية احتياجاتها الهائلة. وكان قسم من هذا الدين، في حال اللجوء الى الآلية المشار اليها، مرشحا لأن يعاد تدويره من قبل البنك المركزي الأوروبي لأن دولا كألمانيا كان ستشارك بحمل أعبائه. وقد عبر الناطق الرسمي باسم حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، يورغ موتن، عن قناعات حوالي 60% من الألمان، وفقا لاستطلاعات الرأي، عندما أعلن أن «فيروس كورونا واليورو لا يبرران أن يستنزف دافع الضرائب الألماني لتحمل أعباء ديون أوروبا بمجملها». بكلام آخر، فان المانيا التي أدخلت في أحكامها الدستورية ضرورة الحؤول دون أي عجز في ميزانيتها لا نية لها بالدفع نيابة عن بلدان جنوب أوروبا.
خبراء الشؤون الأوروبية يلفتون الى التناقض بين موقف برلين المتشدد حيال هذا الملف وواقع أنها أكبر المستفيدين من البناء الأوروبي وستكون حتما متضررة في حال تفككه. إذ كان من المفترض أن تملي عليها مصالحها مساعدة دول الجنوب الأوروبي على الخروج من الأزمة المتعددة الأبعاد التي تعاني منها للحفاظ على وحدة أوروبا. غير أنها اختارت أن تعارض آلية الـ«كورونابوند». في هذه الظروف، يشكل تصريح جاك دولور، الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية ومهندس الوحدة النقدية، في 28 آذار تحذيرا قويا لأنه رأى أن «ضعف التضامن يمثل خطرا مميتا بالنسبة للاتحاد الأوروبي».
الغموض الذي يحيط بجدول أعمال قمة دول الاتحاد المقرر انعقادها في 23 نيسان، والهادفة الى تأمين مستلزمات الانتعاش الاقتصادي يعكس تخبط دوله وعدم امتلاكها لرؤية واضحة حول مآلات مرحلة ما بعد الجائحة. يعتقد اقتصاديون أوروبيون أن الشلل الاقتصادي الراهن، بعكس أزمة 1929 أو الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، يرتبط بعوامل غير اقتصادية، أي بقرار من الدول الأوروبية بالحد من انتقال الأفراد، أدى الى تراجع النقل الجوي بنسبة 98% والبري بنسبة 70%. المشكلة هي غياب اليقين لدى الأوروبيين بقدرتهم على السيطرة على الجائحة. يعني هذا المعطى، خاصة اذا اضيفت اليه احتمالات تجدد الجائحة، أن الأداء الاقتصادي سيكون واهنا وعرضة للزعزعة، مع تراجع للناتج المحلي الاجمالي بـ10 نقاط حسب رأي بعض الخبراء. في هذا السياق المستجد والصعب، ومع تعاظم الشرخ بين دول جنوب أوروبا المطالبة بالتضامن ودول الشمال، يبدو أن بقاء الاتحاد بذاته أصبح على المحك أكثر من أية فترة ماضية.