منذ أن خمدت انتفاضة 17 تشرين 2019، قاومت طرابلس الركون مجدّداً إلى الفقر والإذلال. بخلاف غالبيّة الساحات، لم تغب التحرّكات الاحتجاجية عن شوارعها. تحرّكات لم يقوَ عليها سوى التفلّت الأمني الذي كان جزءاً من مشهد الانهيار العام.
قبل أيام قليلة، دوّى صوت رشقات رصاص في أحياء باب الرّمل الشعبية، وتحديداً في محلّة صف البلاط المحاذي للمسجد المنصوري الكبير. مواطن غاضب خرج شاهراً سلاحه احتجاجاً على قيام صاحب مولّد الاشتراك بقطع الكهرباء عن منزله بعد تعذّر دفعه رسم الاشتراك بالدولار كما اشترط صاحب المولّد.

العتمة تخيّم على بيوت كثيرة أظلمت منذ سنوات بسبب الفقر والحرمان. كثر علّقوا اشتراكهم في المولّدات الخاصة في أحياء التبانة والقبة وضهر المغر والأسواق وباب الرمل وباب الحديد والسويقة والبرانية. عائلات تتشارك يومياً بالعتمة بعد توقّف معظم مولّدات الاشتراك عن التغذية أو بسبب عدم قدرتهم على دفع التكلفة.

في سوق السمك داخل الأسواق الداخلية، تعيش سيّدة مع أولادها الأربعة المعوّقين في غرفة مظلمة لا يدخلها الهواء ولا الشمس. أم أحمد تعجز عن شراء أدوية أولادها، وهي مضطرّة يومياً للقيام بجولة تتسوّل فيها ثمن الأدوية والقوت. ماذا عساها تفعل؟ حتى إنّها لا تملك هاتفاً ذكياً لتسجيل بياناتها للحصول على البطاقة التمويلية المخصّصة للفقراء والدخل المحدود. أقرانها كُثر في الأحياء الفقيرة. أولئك يناشدون ممثّلي وزارة الاقتصاد القيام بجولات يومية على الفقراء لتوزيع المساعدات بشكل مباشر لأنّهم لا يملكون الهواتف ولا الإنترنت ولا الكهرباء، يعيشون بعزلة عن المحيط. وحدها أصوات الأولاد تصدح في الحارات. أولاد حارات تختزن المئات منهم وأجيالاً جديدة تولد كل يوم كفيلة بارتفاع أعداد الفقراء في المدينة في ظلّ غياب الجمعيات المحلية والمؤسسات الرسمية.

رغم أنّ هذه الحارات غارقة في الظلام، إلا أنّها لم تسلم من الإشكالات الفردية شبه اليومية والتي يلجأ فيها المتخاصمون إلى السلاح. وتتوسّع أحياناً، لتصل إلى عمليات تصفية.

صادق شاب في العشرين من عمره، يعيش في منطقة الأسواق الداخلية. يؤكّد أنّه وبعض الشبان حاولوا إيجاد عمل، أقلّه لمساعدة عائلاتهم في دفع فاتورة الاشتراك.

ويؤكّد أحد الفاعليات في المنطقة أنّه يومياً يعبر الأحياء الشعبية للاطمئنان إلى البعض من معارفه. لكنّه يتلمّس أنّ شيئاً ما يُحضّر لهذه المنطقة، نتيجة التجويع والتفقير والتهميش، ما يدفع بالشباب إما إلى خوض مغامرة الهجرة وإما إلى التطرّف وإما إلى المخدرات. ويُعرب عن أسفه لما آلت إليه الحال في طرابلس التي تتحوّل ليلاً إلى مدينة أشباح شوارعها مظلمة ومقفرة. في حين كانت شركة كهرباء قاديشا من أوائل الشركات التي زوّدت المدينة بالكهرباء في الستينيات.