نشرت منظمة «اليونيسيف»، بالتزامن مع جلسة الحكومة لنقاش الموازنة العامة وموازنة وزارة التربية، «جردة حساب» أقرّت فيها بأنها لم تدفع مباشرة أيّ مبلغ للوزارة، بل كانت عمليات التحويل تتم مباشرة للجهات المستفيدة، أي صناديق المدارس والمعلمين، بعد التدقيق بكل التفاصيل عبر الصندوق الائتماني للتربية (TREF).البيان مقلق، فهو يعيد صياغة الكلام المكرر للوزير عباس الحلبي عن أن المنظمة «لم ترسل منذ العام الدراسي 2021 - 2022، أيّ أموال إلى وزارة التربية مباشرة». ويوضح أن مجمل مساهمات «اليونيسيف» والجهات المانحة وصلت إلى 70 مليون دولار لدعم صناديق المدارس وأجور المستعان بهم وحوافزهم، ودعم التلامذة، والمدرسة الصيفية، وترميم 26 مدرسة، وبناء أربع، ودعم تمويل الامتحانات الرسمية. كما أن المنظمة والجهات المانحة ستقوم بترميم 94 مدرسة أخرى وتجهيزها بالطاقة الشمسية.
وفي مقارنة بين البيان حول إنفاق 70 مليون دولار لمساعدة التعليم الرسمي، وبين الموازنة الرسمية للتعليم، يتبيّن أن الموازنة العامة تخصص من إيراداتها المباشرة للإنفاق على القطاع الخاص بمعظمه نحو 30 مليون دولار تحت بنود عدة: إيجارات مدارس وصيانتها، تقديمات مدرسية، تقديمات لصناديق التعاضد، صندوق تعاونية موظفي الدولة، صندوق تعاضد النواب، صندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية، القوى الأمنية، وصناديق أخرى، ومساهمات لغير القطاع العام، ومنح للطلاب... كما أن هناك مصالح مستقلة تنفق من خزينة الدولة بشكل غير مباشر على خدماتها مثل: كهرباء لبنان ومصلحة الريجي وغيرهما، وكذلك مخصصات التعليم المجاني. هذه الأموال، ولو كانت في معظمها من خارج موازنة التربية، إلا أنها تنفق من الموازنة العامة لمصلحة القطاع التعليمي الخاص.
نفهم من بيان «اليونيسيف» أن المنظمة لا تعرف أن الموازنة العامة للعام 2023 خصصت لوزارة التربية نحو 94 مليون دولار، سدّدت منها المنظمة والجهات المانحة 70 مليون دولار! إضافة إلى القرض المخصص لوزارة الشؤون لبرنامج مساعدة العائلات الفقيرة ودعم التعليم أو برنامج الوجبات المدرسية من منظمة الغذاء العالمي أو برنامج دراستي أو الحكومة الألمانية والبريطانية.
التحويل لم يعد يتم مباشرة إلى إدارة الوزارة، وتمّ اعتماد الصندوق الائتماني بديلاً من الإدارة المتلعثمة لفريق الوزارة في تنظيم المساعدات والهبات. وإذا كان كلام «اليونيسيف» الديبلوماسي قد أثنى على جهود الوزير، إلا أنه يشي بفشل الإدارة التربوية في تنظيم هذه المسألة رغم الأموال التي أنفقت على مدى عشر سنوات لتدريب فريق الوزارة على إدارة وتنسيق الأنشطة التربوية والإدارية فيها، كما يشي بعجز المؤسسات الرقابية الوطنية عن التدقيق والمراقبة.
لم يفصح بيان اليونيسيف أو موازنة الوزارة عما إذا كانت هناك أموال متبقية في جعبة الوزارة من هبة مشروع S2R2 لاستكمال المناهج وتطبيقها (مؤجل حتى شباط 2024)، ولم تصرح الوزارة عن المبالغ المتبقية من قرض الـ 100 مليون دولار المخصص لبناء مدارس جديدة التي أعلن عنها الوزير وحوّل قسماً منها لترميم 48 مدرسة وتجهيزها بالطاقة الشمسية بقيمة 32.5 مليون دولار. وأخذت المنظمة على عاتقها بناء أربع مدارس متوسطة وكبيرة في مناطق مختلفة، استناداً إلى اتفاقية سابقة، وهي ترمّم اليوم 26 مدرسة وتجهزها بالطاقة الشمسية، وسترمم 94 أخرى لاحقاً مع تجهيزها بالطاقة الشمسية بكلفة 33 مليون دولار.
صحيح أن «اليونيسيف» والصندوق الائتماني لا يدفعان مباشرة إلى الوزارة أيّ مبلغ منذ 2021 - 2022، لكنهما يغطيان كثيراً ممّا يدخل في صلب عمل الوزارة، كرواتب الهيئات التعليمية والحوافز من المستعان بهم وغير المستعان بهم، ويرمّمان المدارس، ويموّلان الامتحانات الرسمية، ويؤمنان النقل والغذاء لعدد كبير من الأطفال، فضلاً عن قرض البنك الدولي ومساعدات الحكومة الألمانية للتعليم المهني والتقني وغيرها... فماذا بقي للدولة؟ التعليم العام الرسمي مموّل بغالبيته من الجهات المانحة، بينما الدولة تنفق ما يقارب نصف موازنة وزارة التربية على المنح التعليمية التي تذهب بغالبيتها العظمى إلى القطاع التعليمي الخاص، لأن الخطة الإنقاذية للوزارة والحكومة تصرّ على إبقاء النظام التعليمي قائماً، بالرغم من إفلاسها والأزمات المتكررة، ولأن حلول الأزمة التربوية لا تقوم على المال وحده، بل على إعادة التفكير بالنظام التربوي ككل.

* باحث في التربية