انقضى نهار أمس قبل استكمال تشييع جثامين العبارة الإندونيسية إلى مثواها الأخير. التشييع الجماعي عَبَر محطات ثلاثاً، بدءاً من ساحة النور في طرابلس ، مروراً ببرقايل العكارية وانتهاءً بقبعيت، البلدة التي استقبلت نصف أعداد الضحايا. سبع عشرة جثة وُوريت في مدفن جماعي وسط البلدة، بعدما عارضت فعالياتها رغبة حسين خضر في دفن أفراد أسرته التسعة في باحة منزله.
حسين اصبح عنوانا لهذه «المأساة». فقد زوجته واولاده الثمانية دفعة واحدة، كما لو ان حياته كلّها لم تكن الا حلما وانتهى. كلما تلمّس الفراغ القاتل حوله عبّر عن امنيته لو انه كان الضحية الرقم عشرة في الاسرة المنقرضة. يتمنى، على حد قوله، لو انه عاد في تابوت معهم ودُفن إلى جانبهم.
لم يبق احد من اسرته سواه. هكذا يلخّص حسين الفاجعة. يتحاشى الذكريات، الا ان المنزل يخيّم عليه الصمت، وهذا بحدّ ذاته «يقتل»، لذلك كان حسين خضر يودّ ان يحوّله الى «مقبرة» العائلة، اراد ان يُبقي اسرته فيه ولو تحت التراب، لكنه خضع أخيراً لإرادة أهالي البلدة، وقبِل دفنهم مع الآخرين من ابناء البلدة في مقبرتهم الجماعية. هذه المقبرة التي ستبقى تجسّد موت الدولة.
حسين المفجوع يحاول الظهور دائما بمظهر «الرجل الصابر»، لكنه يعلم جيدا انه امضى نصف سنوات عمره يسابق الأيام لتوفير عيش كريم لعائلته. علامات الشقاء تغلب رباطة جأشه. يروي كيف حاول دائما الّا يختار الهجرة. عمل في مجالات كثيرة. أنشأ مصنعاً للحدادة في قبو منزله، لكن وجود زهاء عشرة منها في البلدة، جعلها بلا جدوى باستثناء اثنين فقط «قادرين يطعموا ولادهم، والباقي ناطر الموت من الله». منذ عام 1994، غيّر عمله وصار المصنع بمثابة محترف لصناعة وتركيب اللوحات الإعلانية. ظنّ انه لن يجد منافسة في هذا المجال، لكن عكار الفقيرة تخضع ايضا للمحسوبية. يذكر كيف أنه، أكثر من مرة، ولدى شروعه بتركيب لوحة إعلانية، كان يحضر خرائط المساحة، والأوراق الثبوتية من البلديات المعنية، ومن الجهات المختصة. ومع ذلك، كان يفاجأ خلال عملية التركيب بحضور العناصر الأمنيين، وطلب الرخصة. لا بأس، يقول الرجل، كنت أعطيهم الرخصة، يتنحى رجل الأمن جانباً، يجري اتصالاً هاتفياً، ثم يعود ليبلغني «الرخصة مش مظبوطة»، ويأمر بالتوقف عن العمل تحت طائلة حجز البضاعة ووسيلة النقل. يضيف حسين إنه في إحدى المرات وبعد توقيفي عن العمل، تركت المكان، لأعود إليه بعد نصف ساعة وأجد آخرين ينصبون لوحة إعلانية على «الركيزة» نفسها التي جهزتها.
هي المحسوبية التي جعلت حسين يبحث عن خيارات اخرى، أنفق كل ما يملك في دولة سماها «مرحبا يا شباب».
يقول حسين انه لم يلجأ الى خيار الهجرة لتجميع الثروة، بل بحثا عن «العيش بكرامة». باع ممتلكاته واستدان من أقرباء له، كانوا قد وفقوا في هجرتهم غير الشرعية. يقول ان مئة شخص سبقوه إلى أوستراليا. لذا قرر ان يسير على هديهم.
ما برح حسين يظهر تماسكاً لافتاً أمام عدسات المصورين. حتى مساء أول من أمس، وبعد عودته من مكان الدفن الجماعي، عاب على نفسه أن تكون إحدى الكاميرات قد التقطت له صورة وهو يبكي وينوح. «أنا هيك، لا أحب أن أظهر ضعفي أمام الناس»، يقول، «أنا أنفعل وحدي، وما بريد حدا يشوفني بهالحالة»، ولكن ما الضير في البكاء؟ يقول الجالسون بقربه، انه ينفّس قليلا. هنا فقط يفصح كيف توجه ذات ليلة إلى محلة الخرايب بعيداً عن أماكن السكن في البلدة، وراح يصرخ ويلطم نفسه مدة أربع ساعات، وعندما أنهكه النحيب، استلقى في سيارته وغفا حتى طلوع الفجر.
لا يعير حسين اهمية لبعض الإعلام، يدرك ان الكثيرين لن يفهموا الأسباب التي تدفع مواطناً في أقصى عكار لبيع أرضه ثمنا لرحلة «محفوفة بالمخاطر» في اتجاه واحد، نحو اوستراليا.
راح البعض يعاير حسين خضر المفجوع بخسارة زوجته وأبناء الثمانية، يعايرونه على تضحيته بكل أفراد أسرته. لم تخجل فضائية لبنانية من بث كلام لسيدة عكارية تحمّل حسين مسؤولية الفاجعة، ولم تر من مظاهر غياب الدولة إلا تقصيرها في محاكمة الرجل على ما فعل بهم. كان حسين للتو يشرح كيف كان يجمع أشلاء بناته وأبنائه، ويصفّها على الشاطئ الإندونيسي حتى أيقن أن الأشلاء المجمعة صارت بمقدار عدد أفراد الأسرة. وكم بدا مصطنعاً انفعال مقدمة البرنامج التلفزيوني وهي تستشيط غيظاً واستنكاراً «وطنجياً»، عندما قال الرجل المفجوع إن الهجرة إلى «إسرائيل» أفضل من البقاء في وطن لا قيمة للإنسان فيه.