يرى أن الانفتاح في المملكة انعكس على الحياة الثقافيّةالرياض ـــ علاء اليوسفي
ليس هناك مَن يشغل الحياة الثقافيّة في السعودية أكثر من عبد الله الغذامي (1946). على مدى عقود، تحوّل هذا المشاكس الستيني إلى قبلة الإعلام، بسبب آرائه وكتبه المثيرة للجدل، بدءاً من «الخطيئة والتكفير»، مروراً بـ«القبيلة والقبائلية»، وليس انتهاءً بـ«قصة الحداثة في المملكة العربية السعودية». معاركه الفكرية وفّرت له أيضاً مساحة إضافيةً في الإعلام. إذا خاصم، هرعت إليه الصحافة سعياً إلى «مانشيت». وإذا تصالح، سرق الأضواء كما حدث في «معرض الرياض للكتاب» العام الماضي، حين تصالح مع الشاعر المعروف محمد العلي. أصدر 18 كتاباً حتى الآن (معظمها في بيروت، عن «المركز الثقافي العربي»، إضافة إلى «الطليعة» و«الآداب»)، وتجاوزت مقابلاته الصحافية أكثر من 200، وكُتب عنه أكثر من 600 مقال ودراسة، ما يجعله الناقد السعودي الأبرز بلا منازع، لكنّه يردد دوماً بأنّه ينتسب إلى الفضاء الفكري العربي لا المحلييعكف الغذامي حالياً على إعداد كتابين يتناولان مفهومي «الليبرالية» و«الوسطية» اللذين يعتبرهما عنوان المرحلة الراهنة في الحراك الاجتماعي في المملكة، ويحتلان مساحة في الصحافة السعودية منذ سنوات. يعرض المرحلة الراهنة في المملكة، وخصوصاً على مستوى الحريات، مشيراً إلى أنّ الانفتاح انعكس على المنجز الثقافي. مثلاً، احتلّت الرواية مكاناً على حساب الفنون الأخرى. يقول «قبل عشر سنوات، كنّا نحلم بأن يُكتب هذا الكلام بأسماء صريحة وبأسماء نساء». ويضيف: «هناك أنشطة كبيرة على مستوى الصالونات الأدبية أيضاً. في الرياض وحدها، هناك 30 صالوناً تقام أسبوعياً وهي مفتوحة، حيث يقال كل شيء من دون قيود، وهذا كان مستحيلاً قبل 20 سنة».
على صعيد المستقبل، يبشّر الغذامي بدور بارز تحتله المرأة السعودية على الخريطة الإبداعية: «المرأة مقبلة على اختراقات إبداعية كبيرة. أنا أترقّب ذلك، وأكاد أرى مفاجآت كبيرة آتية». مشروعه النسوي لم ينته مع «المرأة واللغة»، و«تأنيث القصيدة والقارئ المختلف»، و«ثقافة الوهم» (مقاربات حول المرأة والجسد واللغة)، فالمرأة أساساً هي من قاده إلى الانقلاب على النقد الأدبي لمصلحة النقد الثقافي، بعدما اكتشف مصادفةً خلال ندوة أدبية تشابه ثلاث تجارب نسائية وعجز النقد الأدبي عن الإحاطة بالكتابة النسوية السعودية.
ينعى الغذامي عالم الأسرار في المملكة، مشيراً إلى أبواب عريضة للحرية، أحدها إمكان النشر خارج البلد. وهنا، لا يترك صاحب «الخطيئة والتكفير» أي ذريعة أمام الكتّاب السعوديين لعدم الإبداع. هو الذي علّق على باب مكتبه في الجامعة عبارة الجاحظ «إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً، فاعلم أنه لن يفلح». عبارة يجعلها بطاقة تعريف إلى شخصيته المشعبة، إذ قلة يعرفون أنّ الرجل تطوّع مجاناً ليحاضر في «جامعة الملك سعود» في الرياض التي رفضته طالباً في ما مضى.
يشدّد الغذامي على أبواب الحرية، مشيراً إلى أهمية الإعلام الإلكتروني البديل الذي فك القيود، وفتح باباً عريضاً أمام مَن يريد التعبير عن رأيه. حرية مطلقة لا أحد يستطيع حجبها حسب تعبيره. لكنّه رأي يتجاهل أيضاً تبعات تلك الحرية على الكتّاب والمدوّنين. وإذا أضفنا أنّ الغذامي غائب عن المشهد السياسي، أو عن البيانات المطالبة بالحريات، فلا يمكن بعدها أن نخفي سؤالاً عن علاقة الغذامي بالسلطة. عن ذلك يجيب بأنّها علاقة تعايش «كل واحد ينظر إلى الآخر ببعض الريبة، لكنّه يتقبّله». إجابة لا تقفل الباب أمام تساؤلات تسعى إلى استجلاء طبيعة ذلك التعايش بين الحرية الفكرية ومصالح الدولة.
صاحب «الثقافة التلفزيونية» تعرّض لأقسى الانتقادات من التيارين الديني والحداثي حتى خُوّن وكُفّر، لكن من دون مواجهة مع الدولة. «بالتأكيد، أنزعج من تقييد الحريات في الداخل» يجيب مباشرة هذه المرة ومن دون مواربة. لكن، لماذا يصبح دبلوماسياً وحكيماً حين يتعلق الأمر بسياسة الدولة، بينما يمارس أقصى درجات الحدة في آرائه النقدية؟ هل يخشى أن يؤدي خوضه السياسة إلى الغرق في مستنقع يعوقه عن مشروعه الأساسي؟ يجيب بأنّ الاحتمال الأخير وارد، لكن لا يصحّ أن نجعله سبباً يمنع قول كلمة الحق إذا حان وقتها. لكن مَن يقرّر التوقيت المناسب؟ «أنا لا أصطنع المواقف، يعني لا أترك مقالاتي التي أكتبها أسبوعياً في الجريدة وأكتب بأمر سياسي». لكن الأمانة تستدعي القول إن اللحظة المناسبة لاحت يوماً، حين وقف الغذامي أمام الملك عبد الله منتقداً المناهج التربوية في المدارس، وقال إنها تخرّج متطرفين في إشارة إلى الفكر التكفيري والأحادي المسيطر عليها.
أخيراً، لا يمكن تقديم صورة أمينة للغذامي، من دون أن نذكر أنّ هذا الناقد السعودي الإشكالي رفض مناصب عدة عرضت عليه في مجلس الشورى، وفي الوزارة، وفي مواقع حكومية أخرى. أراد أن يبقى مخلصاً لدوره مع الكتاب والمكتبة كما يقول. ويقرّ بأن قبوله تلك المبادرات التي جاءت من أشخاص يقدّرونه ويحترمونه في أجهزة الدولة، يعني أنّه مجبر على تقديم تنازلات: «إذا أصبحت رسمياً، يجب أن تتكلم باسم المؤسسة. وهذا أمر لا أستطيع القيام به».

www.alghathami.com



الرواية السعودية من الطفرة إلى الإبداعيقول عبد الله الغذامي «يتفرّع من مفهوم الانبهار أمران: أحدهما الاندفاع للكتابة من أجل تحقيق هذه الدرجة الانبهارية، والآخر هو الوقوف ضد الروايات بسبب هذه الحالة الانبهارية». ويعلن الغذامي أنّ هذين العاملين المصاحبين لم يعودا متوافرين الآن.
فالاندفاع صوب الإثارة بدأ يتراجع، لأنّ كل ما يمكن أن يثير القارئ قد استهلك، أكان في السياسة أم الجنس أم الجرأة على مقاربة الدين. من هنا، يرى الغذامي أنّ أي روائي يكتب الآن مستنداً الى فعل الإثارة واختراق المحرمات والتابوهات، لن يحقق شيئاً، لأنّ هذه المنطقة استهلكت وجُرِّبت بما فيه الكفاية حتى الاستنزاف.
أما الوقوف ضد الروايات ـــــ وهو العامل الثاني المتفرّع عن الحالة الانبهارية ـــــ فهو بدوره لا يجدي. يشير الكاتب في هذا السياق، إلى العريضة التي رفعتها مجموعة نساء دعون إلى رفع قضية على رجاء الصانع، صاحبة «بنات الرياض» (2005)، لأنّ روايتها قذفت في بنات المدينة.
وجاء يومذاك في العريضة التي وقّعها رجال دين أيضاً، أنّ «الكاتبة عرضت في روايتها معلومات غير صحيحة ومجافية للواقع، ما أساء إلى سمعة الفتيات السعوديات عموماً، وفتيات الرياض خصوصاً».
وطالبت العريضة بمعاقبة الكاتبة ومنع روايتها. ويضيف الغذامي إنّه بعد كتاب الصانع الذي أثار كل هذا الجدل، كرّت سبحة الروايات التي كانت أشد فداحة في الكشف والفضح، وفتحت الباب واسعاً أمام إصدارات لاحقة تحكي قصة الجسد المكبوت والمحرمات الاجتماعية والدينية. بل كانت 2006 سنة الأرقام القياسية بالنسبة إلى الإنتاج الروائي السعودي الذي شهد ظهور ما لا يقلّ عن 50 رواية. لكن كل هذه الأعمال لم تنتج أي ردود فعل في السعودية، ما يعني أن المجتمع تآلف مع فكرة أنّ الرواية فنّ ومجاز مثلما اعتاد على مدى قرون أنّ الشعر مجاز. ويضيف الغذامي: «هكذا، صرنا نقرأ واقعنا كأنّه دراما، وليس وثائق خطيرة. وهذه تحوّلات قوية جداً وغير عابرة. الرواية حوّلت المجتمع المحافظ الذي كان يرى أنّ من العيب كشف الستر، وبدأ يتقبل الواقع الجديد. لذلك، أقول إنّه في السنوات المقبلة، سندخل زمن الرواية الإبداعية الحق».
علاء...