بعد مشاكل عديدة مع السلطة، ها هي الصحيفة تواجه التحدّي الأخطر في مسيرتها: بعدما اشتراها رئيس حزب «الوفد» السيد البدوي، كيف سيكون لسان حال الجريدة التي احتفظت دوماً بمكانة مستقلة عن النظام والأحزاب في آن؟
محمد خير
في الأيام المقبلة، سيكون على جريدة «الدستور» أن تخوض اختباراً جديداً عليها وعلى الصحافة المصرية، بعدما شهدت الساحة المصرية لأول مرة شراء رئيس حزب معارض جريدةً مستقلةً هي «الدستور»، وخصوصاً أن هذا الحزب يمتلك جريدته الخاصة وهي «الوفد» العريقة. أما «الدستور»، فيتمثل اختبارها في الإجابة عن سؤال: إلى أي حدّ ستستمرّ الجريدة المستقلة... مستقلة؟
وفقاً لبيان نائب رئيس مجلس الإدارة، السابق، أحمد عصام فهمي، فالهيكل التحريري لـ«الدستور» سيظل كما هو. كما أكّد رئيس التحرير التنفيذي إبراهيم منصور أن اتفاق البيع يشترط عدم المساس بالسياسة التحريرية. مع ذلك، ستكون استقلالية الجريدة على المحك بعيداً عن شروط البيع والشراء، وستحدّق الأعين في صفحات الجريدة في الأيام المقبلة بحثاً عن أي تغيّر طفيف في سياستها التحريرية.
الباحثون عن هذا التغيير ليسوا القراء فحسب بل المنافسين أيضاً. وقد بدأت «الحرب» فعلاً، فنشرت «المصري اليوم» المنافِسة خبراً يقول إن رئيس تحرير «الدستور» إبراهيم عيسى، تقاضى مئتي ألف دولار في اتفاق البيع، ما نفاه عيسى واصفاً الخبر بـ«الكاذب»، مؤكداً أنه لم يتقاض مليماً واحداً من عملية البيع. لكنّ عيسى اليوم أمام مهمة قد تكون الأخطر في مشواره المهني، ألا وهي الاحتفاظ بخطّ «الدستور» التي ارتبطت به منذ تأسيسها على يد الناشر عصام إسماعيل فهمي منتصف التسعينيات. كان عيسى وقتها رئيس تحرير في الثلاثين من عمره، اعتمد على كتيبة من المحررين الشبان، فقدّم تجربة غيّرت شكل الصحافة المصرية المنقسمة آنذاك بين حكومية وحزبية. بثوبها الشبابي ذي اللون الساخر واللغة المحكية، حققت «الدستور» في التسعينيات أرقام توزيع تخطت مئة ألف نسخة. ثمّ أُغلقت الصحيفة في 1998 بحجة نشرها بيان مجموعة مسلحة ضد رجال أعمال أقباط، وقد اعتبرت السلطات نشر البيان تهديداً للسلم الاجتماعي.
في آذار (مارس) 2005، عادت «الدستور» إلى قرائها بالإصدار الثاني في ظل تغيرات سياسية عنوانها محاولات توريث الحكم، وتحويل الاستفتاء على رئاسة الجمهورية إلى انتخابات تعددية مقيدة، وتغييرات طالت القوانين المنظمة لحقوق الصحافيين. هكذا خُفضت مواد الحبس وزيدت مواد الغرامات. مع ذلك، لم ينجُ صحافيو الجريدة ورئيس تحريرها من أحكام الحبس، وكان أشهرها الحكم المعروف بقضية «صحة الرئيس» قبل عامين. وقتها، أدين عيسى بالسجن بتهمة ترويج شائعات عن صحة الرئيس، وهو حكم أُلغي بعفو رئاسي. لكن التغيّرات الأخطر للجريدة كانت ما شهده السوق الصحافي. بعدما ازدهرت مفاهيم الصحافة المستقلة، ازدادت المنافسة شراسة ولم تعد الصحف اليومية حكراً على المؤسسات الحكومية، بل دفعت رؤوس الأموال الجديدة الصحافة الخاصة إلى المعترك اليومي. لذا كان لزاماً على «الدستور» التحول إلى الإصدار اليومي منذ 2007. وإذا كان توزيع الإصدار الأسبوعي الأعلى، فالإصدار اليومي ظل بعيداً وبفارق اتسع عن «المصري اليوم» التي تجاوزت 150 ألف نسخة يومية. ثم دخلت جريدة «الشروق» على الساحة، وبدا واضحاً أن تسيّد التوزيع اليومي غير ممكن من دون إمكانات مالية كبيرة تتوافر لـ«المصري اليوم» و«الشروق»، بينما ظلت «الدستور» بالإمكانات المحدودة لناشرها ومؤسسها عصام فهمي. إلى جانب معاناتها من قلة الإعلانات إذ تستثنيها شركات معظم رجال الأعمال القريبين من السلطة.

جاء في «المصري اليوم» أن إبراهيم عيسى قبض 200 ألف دولار ضمن اتفاق البيع

من هنا، تبدو الناحية المالية النقطة الأهم في صفقة بيع «الدستور» لرجل الأعمال السيد البدوي، رئيس حزب «الوفد» الذي يمتلك تلفزيون «الحياة» بقنواته الأربع. الصفقة التي بلغت حوالى ثلاثة ملايين دولار مع الاحتفاظ بالهيكل الإداري والتحريري، تحقّقت بعد مفاوضات طويلة حتى أعلن أخيراً أنّ «الدستور» «انتقلت ملكيّتها إلى مجموعة من المساهمين الذين يمثّلون رموزاً للمجتمع الإعلامي، والسياسي، والاقتصادي فى مصر، والذين يؤمنون برسالة جريدة «الدستور» الوطنية (...) ويأتي على قمة هؤلاء المساهمين الدكتور السيد البدوي (...)، والأستاذ رضا إدوارد رجل التعليم البارز». وإدوارد قيادي وفدي وعضو الهيئة العليا في«الوفد». وهو الحزب نفسه الذي ترددت شائعات عن صفقة بينه وبين النظام «يرث» بموجبها المقاعد التي قد يفقدها الإخوان المسلمون في انتخابات البرلمان المقبلة. بالطبع، فالسيد البدوي، الرئيس الجديد للحزب، نفى تلك الشائعات، وباشر رئاسته بنشاط ضم عدداً من الشخصيات العامة إلى الحزب، من رجل الأعمال رامي لكح إلى الشاعر أحمد فؤاد نجم، ولاعب كرة القدم عبد الواحد السيد، وتوّج ذلك بشراء «الدستور». كيف سيكون لسان حال الجريدة التي طالما احتفظت لنفسها بمكانة مستقلة عن النظام وعن الأحزاب في آن؟


رائدة الصحافة المستقلة

بعد صدور قرار إقفال صحيفة «الدستور» عام 1998بتهمة نشرها بياناً «يهدّد السلم الاجتماعي»، تأسست مجموعة من الصحف المستقلة في مصر وحصلت على تراخيص أجنبية ثم مصرية. وقتها استقر مفهوم الصحافة المستقلة تعبيراً عن الصحف التي يملكها رجال أعمال أو شركات مساهمة، وتمييزاً لها عن الصحف الحكومية التي تعود ملكيتها رسمياً إلى مجلس الشورى «بوصفه نائباً عن الشعب في ملكية تلك المؤسسات»، فضلاً عن الأحزاب التي منحها القانون حق استصدار صحف تعبر عنها.