في زحمة الفرضيّات حول حادثة السطو على لوحة لفان غوغ، انتبه المصريّون إلى درجة الانحطاط التي بلغتها المؤسسة الثقافيّة في بلادهم. مسيرة حافلة بالفساد، تتواصل منذ عقدين...
محمد شعير
فاروق حسني مكتئب. لم يقصد مكتبه في الأيام الماضية بسبب الأزمة التي سببتها سرقة لوحة فان غوغ «زهرة الخشخاش» من «متحف محمد محمود خليل». وقد أعلن وزير الثقافة المصري أنه يشعر بـ«الزهق، ولا يستطيع النوم ولا العمل في ظلّ وجود هذه النوعية من الموظفين عديمي المسؤولية». وبالطبع، فإنّ الغضب حق أصيل للوزير... لكن لماذا يبقى غاضباً الآن، بعدما نجح في تحميل رئيس قطاع الفنون التشكيلية محسن شعلان المسؤولية وحده؟
خرج حسني من هذه الأزمة ـــــ تماماً كما خرج من أزمات أخرى ـــــ «كالشعرة من العجين». هل نسي الوزير الغاضب من اختار هؤلاء المسؤولين «عديمي المسؤولية»؟ هل فرضهم عليه أحد؟ وكيف أدرك اليوم أنّ محسن شعلان لا يصلح لمنصبه بعد أربع سنوات على تعيينه؟ وهل نسي أنّ كثيرين ممن عملوا معه اتهموا بقضايا فساد، حتّى انتهى الأمر ببعضهم في سجون المحروسة؟ ألا يعرف الوزير أنّه يتحمّل مسؤولية معنوية وسياسية في قضيّة سرقة من هذا العيار الثقيل؟
المتابعون لأزمات «وزارة الثقافة» يدركون أنّ محسن شعلان لم يكن إلا كبش الفداء. شعلان من جهته، لم يلتزم الصمت في تحقيقات النيابة، بل أبرز مستندات تدين المرشح السابق لمنصب الأمين العام لمنظمة «الأونيسكو» (كان سيصبح مسؤولاً عن التراث العالمي بمجمله). وطالب شعلان بأن يكشف الوزير عن ميزانية ترشيحه لـ«الأونيسكو» التي كانت تكفي لترميم عشرات المتاحف ووضع أجهزة مراقبة فيها.
المشهد الثقافي المصري اعتاد هذا النوع من الفضائح طوال ثلاثة وعشرين عاماً من سيادة فاروق حسني على الثقافة المصرية. اللوحة مهما غلا ثمنها، ليست أهمّ من عشرات المسرحيين الذين احترقوا في قصر «ثقافة بني سويف» عام 2005. وليست أكثر قيمة من عشرات المباني الأثرية التي احترقت أو دمّرت بفعل «الترميمات الخاطئة».
لكنّ الوضع هذه المرة مختلف. إذ أيقظ الوزير رئيس الجمهورية حسني مبارك في وقت متأخر قائلاً: «مبروك سيادة الرئيس، لقد عثرنا على اللوحة المفقودة». الوزير كان قد تلقى مكالمة من مساعده الذي تلقى بدوره مكالمة من مجهول. صدر بيان صحافي نشرته الصحف ووكالات الأنباء يفيد بالعثور على اللوحة... قبل أن يكتشف الوزير ومساعدوه أن المكالمة كاذبة. الوزير ورئيس قطاع الفنون التشكيلية لم يكلِّفا نفسيهما عناء معاينة اللوحة للتأكد من أنّها ليست مزورة مثلاً، قبل المسارعة إلى إصدار بيان وإيقاظ رئيس الجمهورية!
إنّه الإهمال الذي صار اعتيادياً في كل ميادين الحياة الثقافيّة المصرية، أو بحسب تعبير التشكيلي عادل السيوي «جزء من خيبتنا العامة». وبعيداً عن كل التفاصيل التي تناولتها الصحف في ما يتعلّق بأعطال أجهزة الإنذار وكاميرات المراقبة في المتاحف المصريّة، يبقى سؤال واحد يشغل فناني مصر: ما هي أغراض هذه السرقة؟ ولماذا أقدم اللص على سرقة لوحة يعرف مسبقاً أنّه لن يستطيع التصرف بها؟
برأي السيوي، فإنّ «سرقة اللوحات الفنية من متاحف العالم تكون موجهة في الغالب إلى شركات التأمين التي تتفاوض مع اللصوص من أجل إعادة اللوحة، مقابل مبلغ مالي معين». الغريب هنا أنّ كل لوحات «متحف محمد محمود خليل» (وقيمتها 7 مليارات دولار تقريباً) غير مؤمّن عليها، مثلها مثل كلّ مقتنيات متاحف مصر. ويرى السيوي أنّه يستحيل أن يشتري أي متحف عالمي لوحة مسروقة... لذا، قد يكون دافع السرقة انتقامياً برأيه «أو حباً مجنوناً للعمل، أو شخصاً يريد إثبات كفاءته أو أن يسخر من الآخرين». المشكلة الأكبر من وجهة نظره هي غياب «الثقافة المتحفية، إذ إن زوار المتحف في ذلك اليوم لم يكونوا يتجاوزون العشرة... والمتاحف المهجورة تشجع على السرقة». ثمّة سيناريو آخر يحبّذه أصحاب نظرية المؤامرة: «اللوحة ستعود في الوقت المناسب. ربما لم تسرق في الأساس، وما يدور من جدل حولها محاولة لإلهاء الناس عن قضايا أكبر، كتوريث السلطة». ويقول أصحاب هذا الرأي إن سيناريو العثور على اللوحة كان محبكاً: «سائحان إيطاليان تمكّنا من سرقتها، وكانا من زوار المتحف في ذلك اليوم، وقد أوقفا في المطار وبحوزتهما اللوحة المسروقة». أصحاب نظرية المؤامرة يؤكدون أنّ هذا السيناريو قد يكون صحيحاً، وجرى إبلاغ وزير الثقافة به، فأصدر بيانه على هذا الأساس... لكنه احتفظ باللوحة في وزارة الداخلية لفترة من الزمن «بهدف تمرير قضايا أكبر».
«زهرة الخشخاش» لها قصّة غريبة حقاً. اللوحة اشتراها محمد محمود خليل (1877 ـــ 1953) بمبلغ قدره 40 جنيهاً استرلينياً في عشرينيات القرن الماضي. كان المذكور وزيراً للزراعة عام 1937، تولّى رئاسة البرلمان مرتين متتاليتين، واشتهر بعشقه للفنون. هكذا، ساهم في تأسيس جمعية «محبي الفنون الجميلة» مع الأمير يوسف كمال عام 1924، وتولّى رئاستها عام 1925. وكان خليل يجول العالم بحثاً عن لوحات أشهر الفنانين. واقتنى في بيته الذي بناه على مساحة شاسعة عام 1916، أكثر من 200 لوحة ومجموعة قيّمة من الأواني النادرة، والأحجار الثمينة، والتماثيل البرونزية.
المحاولات السابقة للسطو على اللوحة تدعو إلى التفاؤل بإمكان العثور عليها. هذه هي المرة الثالثة التي تفقد فيها لوحة فان غوغ الشهيرة. الأولى كانت في الستينيات، وقيل إنّ مسؤولاً كبيراً في الدولة المصرية أعجب بها وقرّر ضمها إلى مجموعته الخاصة... لكن عندما عرف وزير الثقافة حينها ثروت أباظة بالأمر، أعلن أنّه تسلّم رسالةً من مجهول تخبره بمكان اللوحة في حديقة القصر، حيث وجدها بالفعل.
أمّا المرة الثانية فكانت عام 1978، حين سطا على اللوحة لص شهير يدعى حسن العسال، وقد سرقها لحساب مرشد سياحي مقابل 1000 جنيه مصري (180 دولاراً). تسلل العسال إلى المتحف ليلاً، وانتزع اللوحة عن الجدار، ثم قفز فوق سور الحديقة، وسلمها للمرشد

لوحات بـ 7 مليارات دولار غير مؤمّن عليها في «متحف محمد محمود خليل»

السياحي الذي هرّبها مع شقيقه إلى الكويت. وبعد عام استيقظ ضمير اللص، واعترف لضابط المباحث بتفاصيل جريمته، مقابل أن يساعده الأمن في إقامة كشك لبيع المرطبات والحلوى على ناصية أحد الشوارع! الغريب أنّ حارس الأمن المسؤول عن حماية المتحف قال في تحقيقات النيابة: «إيه التصويرة إلي انتو عاملين عليها الدوشة دي. اخصموا حقّها من مرتبي»! أما هذه المرّة، فقد جاء دور الملياردير المصري نجيب ساويرس ليتبرّع بأمواله من أجل إنقاذ اللوحة. فقد خصص الرجل مكافأة قدرها مليون جنيه مصري (180 ألف دولار) لمن يدلي بمعلومات عن «زهرة الخشخاش».
من جهته، لاحظ الصحافي محمود صلاح رئيس تحرير «أخبار الحوادث» أن مجلة «الخيال» التي تصدر عن «هيئة قصور الثقافة» وتعنى بالفن التشكيلي، نشرت في عددها الماضي، مقالاً يتناول «واقعة سرقة «زهرة الخشخاش» الثانية بالتفاصيل الكاملة. وكان ذلك في مناسبة الاحتفال بمرور 120 عاماً على رحيل فان غوغ. من هنا، لا يستبعد أن يكون السارق قد قرأ الملف، واستوحى منه السطو على اللوحة مرةً ثالثة. فهل تعود اللوحة هذه المرة؟ الإجابة في يد الغيب بقدر ما هي في يد الحكومة المصريّة...


المتحف والقصر

بقي قصر محمد محمود خليل منذ بنائه حتى عام 1960 مسكناً للعائلة. إلا أنّه بناءً على رغبته وتنفيذاً لوصية زوجته، تحول هذا القصر في 23 تموز (يوليو ) 1962 إلى متحف يحمل اسمه. أخلي المتحف عام 1972، وألحق بمسكن أنور السادات، وجرى تخزين محتوياته. بعد عقود من الإغلاق، أعيد افتتاحه في أيلول (سبتمبر) 1995، وبلغت كلفة تحديثه وتطويره 20 مليون جنيه مصري (أكثر من ثلاثة ملايين دولار).