جورج موسىحتى الأمس القريب، كانت الطرق تعجُّ في بداية الصيف، بإعلانات لأحدث الإصدارات الغنائية. كانت الإذاعات والمكتبات الموسيقية تضجُّ بعشرات الأغنيات، فيما الفنانون يتنافسون ــــ سراً وعلانيةً ــــ على عدد الحفلات التي يقيمونها. باختصار، كان سوق الكاسيت مزدهراً، يمثّل منجم ذهب لكثيرين.
اليوم، اختلف الوضع: شحَّت الألبومات وبات الرهان على الأغنيات المنفردة (السينغل). كما تراجعت أرقام المبيعات وباتت الحفلات بديلاً، لكنّها لا تنجح غالباً إلا بمشاركة أكثر من نجم... وأصبح «سوق الكاسيت» أشبه بعبارة وهمية، تُشيرُ غالباً إلى أيام عزٍّ غابر. حتى سوق الخليج، لم يعدْ كالسابق قادراً وحده على تسجيل الأرباح وتحقيق التوازن.
مع تعاظم ظاهرة القرصنة، وفي ظلّ سطوة «الديجيتال» وانتشار مواقع التحميل المجّاني... بدأت الخسائر، منذ سنوات، تتوالى على عالم الإنتاج الفنّي. لكنَّ الوضع اليوم تجاوز الخط الأحمر! المشكلة لا تتوقف عند تراجع أسهم هذا الفنان أو ذاك، بل عند النزف الحاصل في صناعة الموسيقى، وخصوصاً عند الحديث عن تهديد قطاع بأكمله. وهو قطاعٌ يُشغِّل المئات في التسويق والدعاية والتصميم والتصنيع وحتى الكتابة والتلحين وربّما الغناء.
لكن ما الأسباب التي أوصلتْ الوضع إلى هذا الانهيار؟ أهي «الميديا» الحديثة التي لم يستوعبها جيداً المنتج العربي؟ أم السياسات الإنتاجية التي استهلكت الكثير من النجوم، فأوصلت المستمع إلى حالة تخمة، لا سيّما أنّ كل مواطن عربي تقريباً قرر تجريب حظِّه بالغناء؟! أم أنّه الملل من وجوه وقعتْ في الرتابة، فسيطر التكرار على إنتاجاتها؟ أم قرصنة الأسطوانات المدمجة التي كبَّدت القطاع خسائر لا تنتهي؟ أم «روتانا» التي «أفسدت» المغنين بتدليلهم عبر عقود احتكارية ومبالغ خيالية، فـ«بلعتْ» السوق وأضعفتْ الشركات الأخرى وشكَّلتْ «امبريزاريو» المهرجانات... قبل أن ينقلب السحر على الساحر، وتعود للتموضع بعد غربلة الأسماء وإعادة ترتيب الأوراق؟
قد تكونُ كلّ هذه الأسباب مجتمعة، لا سيّما أن الأزمة المالية العالمية أسهمتْ في تفاقم الوضع. إلا أنّ ما يدعو للحيرة هي معطيات متناقضة تظهر جلياً في هذا الملف الذي يحاول رصد التحوُّلات الآنية في صناعة الأغنيات التجارية. رغم الأزمة المصيرية، ما زال هناك حراكٌ في السوق: مبالغ طائلة تُرصد لميزانية الألبوم الواحد (قد تصل إلى 500 ألف دولار تقريباً)، أسماء تحقق مبيعات جيدة كإليسا وأبو الليف. وحفلات الصيف ما زالتْ تجذب عدداً لا بأس به من الساهرين، فيما «روتانا» التي كثرَ الحديث عن أزماتها المالية، تُقيمُ في لبنان وحده خلال هذا الموسم 22 سهرةً. كما عقدَتْ الشركة السعودية أخيراً اتفاقية شراكة مع Yahoo لنقل محتوى مكتبة «روتانا» الفنية عبر شبكة فيديو جديدة يوجّهها الموقع المعروف تحديداً للعالم العربي.
وسط كل هذه التناقضات، لا شكّ في أن سوق الكاسيت يعيشُ امتحاناً أصعب هذا الموسم. ذلك أن صيف 2010 الذي بدأ متأخِّراً بسبب المونديال وينتهي باكراً بسبب حلول رمضان، يشهد طرح ألبومات عدة، في فترة لا تمتدُّ لأكثر من ثلاثين يوماً. وبين الإصدارات الجديدة: عمرو دياب الذي يطرحُ، للمرة الأولى، أغنية واحدةً فقط بتوزيعات عدة ضمن أسطوانة «أصلها بتفرق». وتقدِّم أصالة «قانون كيفك»، وتامر حسني «اخترت صح»، وهاني شاكر «بعدك ماليش»، ومحمد فؤاد «بين إيديك»، وفارس كرم «الحمدالله»، ونقولا سعادة نخلة «القلب الحنون»، ومحمد حماقي «حاجة مش طبيعية»...
أخيراً، أشارت إحصاءات غير رسمية نُشِرَتْ عام 2003، ورصدت حركة البيع في سوق الكاسيت، إلى ارتفاع معدلات توزيع شرائط نجوم الطرب القديمة أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفايزة أحمد... يومها، هلل النقاد لـ«الظاهرة الصحية»، مراهنين على أن ذلك يبشر بانفراجة فنية تلوح في الأفق. إلا أنّ أحداً لم يتوقّع آنذاك أن تُسهم تحوُّلات الذائقة الفنية بشكل أو بآخر في زعزعة الإنتاجات الحديثة... فهل تنجح الشركات الفنية بمواجهة التحدّيات أم نصلُ إلى يوم ننعى فيه سوق الكاسيت؟ الإجابة برسم الأيام المقبلة.