عبده وازن... حياة (شعريّة) ثانية



يكتب الشاعر اللبناني، بعد امتحان صعب، كما ليلقي ضوءاً على ذاته. تتدافع شذرات من حياة عادية، بدأت بفقدان الأب وعبرت بالحرب الأهلية وفكرة الانتحار. لقد وضعه الجرّاحون وجهاً لوجه مع نفسه

حسين بن حمزة
كتاب «قلب مفتوح» (الدار العربية للعلوم ناشرون) هو ثمرة عملية القلب المفتوح التي أجراها عبده وازن قبل عامين. فتح الجرّاحون قلب الشاعر بمباضعهم، ففتح قلبه على الورق وكتب لنا، ولنفسه، فكرة اقترابه من لحظة هي بين الحياة والموت. جراحة كهذه أشبه بالمكوث في البرزخ الضيق الفاصل بين الوجود والفناء. معظم مرضى القلب يخرجون من هذه التجربة بشعور من مُنحوا حياة ثانية أو عمراً إضافياً. عاش الشاعر التجربة مثل أيّ مريضٍ آخر. الفارق أنه أراد أن يكتبها، محوّلاً نجاته إلى «ذريعة» للكتابة.
يبدأ الكتاب بلحظة الاستيقاظ من العملية. استعادة اللحظات التي سبقتها. التفكير في أثر الجرح الذي سيبقى في الصدر. «أكتب الآن وكأني شخص آخر» يقول وازن، داعياً القارئ إلى رحلة طويلة ومتشعبة من سيرة وذكريات الشخص الذي أفاق وباتت له ولجسمه حياتان. يروي وازن تفاصيل شخصية كثيرة من حياته، لكنّنا لا نحس أننا أمام سيرة ذاتية خالصة. إنها سيرة بالطبع، لكنها منجزة بمزاج غير مستسلم تماماً لفكرة الاعتراف.
صاحب «حديقة الحواس» يخلط الذكريات القديمة بوعيه الراهن لها، فتبدو ذكريات منقَّحة ومزيدة. لا تتغير الذكريات لكنها تكتسب طبقات إضافية من التأمل والمراجعة. تدخُّل المؤلف في صياغة ماضيه، مردُّه إلى أن الماضي نفسه لا يتضمن منعطفات أو أحداثاً دراماتيكية. لا نجد في «سيرة» وازن ما يجعلها سيرةً فريدة أو جريئة، كما أنها مكتوبة وفق مزاج شديد النثرية. لا يتظاهر الشاعر بأيّ بطولات، سواء كانت حقيقيّة أو متوهَّمة. حتى بطولات الشعر ومجازاته واستعاراته مستبعدة هنا. إنه كتاب ذكريات خاصة وليس ديواناً شعرياً. الدقة والواقعية حاضرتان بدلاً من الإيحاء والتورية. النص نفسه قائم على تسلسل منطقي وأسلوبي واضح.
قد تبدو الملاحظات السابقة سلبية للوهلة الأولى، لكنها تضع صاحب الكتاب في مواجهة تحدٍّ صعب، وهو إقناع القارئ بذكريات لا تحتمل التشويق والإثارة والبطولة. لعلّ أهمية الكتاب موجودة هنا. إنها سيرة شخص حظي بحياةٍ عادية. كُتب لهذا الشخص أن يصبح شاعراً وكاتباً، لكن هذا لا يغيِّر الكثير من جوهر حياته وذكرياته. العادية هنا ليست تبخيساً لما نقرأه. إنها صفة تمنح الكتاب نبرةً بشرية خافتة، ومعادلة لخفوت السيرة المرويّة نفسها. يصحبنا الشاعر إلى طفولته. فقدان الأب. الحب الأول. العائلة.

الدقة والواقعية بدلاً من الإيحاء والتورية
الإيمان الأوّلي أو الغريزي. تأثير التلفزيون. المراهقة. الممارسة الجنسية الأولى. السفر إلى الكونغو في السنة الثانية للحرب الأهلية. كآبة الثلاثين والتفكير في الانتحار... التفاصيل الواقعية تختلط، كما أشرنا، بالتأملات الراهنة. ثمة وعي لاحق وثقافة متراكمة، تربط الذكريات بتساؤلات وجودية وفلسفية وشعرية. هكذا، تعوم السيرة في فضاءٍ أوسع من حدودها التقليدية. الفضاء الجديد يسمح بإخبار القارئ بأفكار المؤلف وميوله وآرائه. يتجاوز وازن فكرة السيرة والاعتراف. الحديث عن الانتحار يفتح الشهية للكلام عن انتحار أوفيليا وإيما بوفاري وآنا كارنينا. الاكتئاب في الثلاثين يستدعي «ك» بطل كافكا الثلاثيني في «المحاكمة»، وبطل «رجل بلا صفات» لموزيل. بياض جدران المستشفى يُمهِّد للكلام عن بياض الملائكة الذين يستدعون عبارة «كل ملاك رهيب» لريلكه، وملائكة دانتي وميلتون وشكسبير وغوته وابن عربي وسواهم. يتكرر ذلك في الحديث عن الحلم والليل والإيمان...
استسلم صاحب «حياة معطّلة» لفكرة الكتابة وتدفّقها، لا لسرد أجزاء محددة من سيرته فقط. لكن هذا لا يمنع القارئ من ملاحظة أن الذكريات تُروى كما حدثت تقريباً. لا سعي هنا إلى تحسين الماضي، ولا رغبة في ادعاء بطولاتٍ وهمية. بل إن الشاعر لا ينتظر منا أن نصف صنيعه بمفردات جاهزة كالجرأة والشجاعة في كشف أسرار خاصة. كأنّ الكتاب فرصة لتعرّف الشاعر على نفسه. «أكتب لألقي ضوءاً على نفسي»، يقول وازن في خاتمة كتابه.