Strong>«الصدمة» في فرنسا صور بلا عواطف زائدةالفنانة الفلسطينيّة تواصل التوثيق بصريّاً لرحلة التيه الطويلة، وملحمة التشرّد واللجوء التي يعيشها شعبها منذ النكبة. أعمالها التي تعرض حالياً في فرنسا، تقيم علاقات مركّبة ومتشعّبة مع الواقع، وتمثّل قراءة فوتوغرافية في مفهوم القوة وقدرتها على خلق تواريخ جديدة ملفّقة

حازم سليمان
مثل صيّاد صبور، تقتفي أحلام شبلي (1970) أثر الوطن. بفطرة بدوي تتعقب آثار ارتحال أهلها (عرب الصبيح) على رمال صحراء النقب في رحلة طويلة وأبديّة من التشرد واللجوء والبحث عن أوطان مؤقتة. منذ 1996، تحفر شبلي الحزن الفلسطيني في أرجاء العالم. تقدّمه بمفردات خاصة وقراءات وتوثيقات بصرية عميقة ومتشعبة. تترك بينها وبين الوصفات الفنية الوطنية مسافةً كبيرةً، وتمضي في مغامرة فنية عبثية تشبه كثيراً الواقع الذي تستند إليه مجموعاتها الفوتوغرافيّةللوهلة الأولى، يبدو الأمر بسيطاً ما دمنا أمام وطن مُحتل، فأي صورة يُمكنها أن تكون موضوعاً مؤثراً ومعبّراً، هكذا اعتدنا. شبلي تركت للتلفزيون والصورة الصحافية القيام بهذا الدور. قدمت مجموعة تجارب تنظر إلى الواقع من زوايا مختلفة. اشتغلت على صورة تكون مرادفاً للخلل الكبير والشائك في مفاهيم جوهرية كالانتماء والهوية، ومحاولات اللاجئين الفلسطينين استنساخ بيوت وبيئات ومستويات اجتماعيّة تشبه الواقع الأصلي. الصورة هنا رهان صعب لأنّها تجسد المعنى بعد تعرية الشكل من جلده العاطفي المضلل. تقول شبلي وهي من فلسطينيي 1948: «ثمة شباب في فلسطين يخدمون في جيش الاحتلال، يقتلون أهلهم وهم يعرفون تماماً حجم خيانتهم. رأيتهم يقسمون يمين الولاء لإسرائيل، وسمعتهم يتهامسون حين يأتي دور أحدهم للقسم: يا الله يا خائن... بدك تحلف ضد شعبك. كل ذلك من أجل الحصول على قطعة أرض هي لهم أساساً».
صور شلبي التي جابت العالم، تحل ضيفة على «قصر دو سيديار» في لا كوريز (مقاطعة ليموزان/ جنوب وسط فرنسا)، عبر معرض «الصدمة» الذي يضم مجموعتين هما «الصدمة» (2008 ــ 2009) و«غوتر» (2002 ــ 2003). في «الصدمة»، تحاول شبلي وضع المتلقي، وخصوصاً الفرنسي، أمام أسئلة عدة. تسعى إلى استفزازه وعدم الاكتفاء بمشاعر التعاطف التي سرعان ما تخبو، بعد بضعة أمتار من صالة العرض. و«الصدمة» التي تحاول شبلي إمرارها، تعود إلى عام 1944. وهي كلمة لها دلالة في الذاكرة الفرنسية، تحديداً حين دخل الجيش النازي إلى بلدة «تول» آخر معاقل المقاومة الفرنسية، وأعدم أكثر من 99 شخصاً وأرسل عشرات الرجال إلى معسكرات الاعتقال من دون رجعة.
أن يتقاطع المشاهد الفرنسي مع حكاية من ماضيه (المشرِّف) ليس كل اللعبة. تلتفّ شبلي على هذه المشاهد المثيرة للفخر بانتقال إلى المستعمرات الفرنسية لتسأل: كيف لهؤلاء المقاومين الذين قاتلوا الاحتلال النازي، وبذلوا التضحيات من أجل الحرية، أن يمارسوا الدور نفسه من بطش وقتل وتعذيب وتشريد في المستعمرات والدول التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي؟
في قسم آخر من المعرض، تؤكد لنا أعمال شبلي أن الجرائم في حق الإنسانية لا تسقط بالتقادم، بل تظل عالقة في التاريخ والذاكرة والوجدان. هنا، تعرض «غوتر» وهي كلمة يستخدمها الفلسطينيون البدو الذين يعيشون في النقب. الكلمة مشتقة من Go There كانوا يسمعونها دوماً من جنود الانتداب البريطاني. تتناول صور المجموعة الترحيل القسري الذي تعرّض له البدو من سكان النقب ووحشية الجيش الإسرائيلي، وتوثق بأسلوبها الخاص العداء الاجتماعي والثقافي والديني الذي يتعرض له مَن رفض الانتقال وترك أرضه.
البيت تحوّل مشغل خياطة لأرملة يهودية عجوز، وربما يصير سينما قريباً
في هذا المعرض، تنسج شبلي مجموعة من الخيوط بين الماضي والراهن. تستند إلى التاريخ قليلاً، وتضعنا في الوقت نفسه أمام اللحظة الراهنة. لا شيء تغيّر. فقط الوجوه تتبدل بين زمن وآخر وتظهر ملامح جديدة تواصل حمل ثقل الخيبة. العالم البصري الذي تتحرك فيه شبلي آيل إلى السقوط في أي لحظة، مثل البيوت التي تُهدم في القرى الفلسطينية غير المعترف بها. من هنا، فانحيازها لتوثيق العادي من تفاصيل الحياة يتخذ مشروعيته من أنّه حتى هذه التفاصيل التي تبدو ساذجة، هي أشياء متغيرة وغير ثابتة. عوالم موقتة مثل رمال متحركة: أرض الزيتون تصير في غمضة عين مشروعاً لعلف الأبقار. البيت يتحول إلى مشغل خياطة لأرملة يهودية عجوز، وربما صالة سينما بعد أشهر. الشجرة «تنبت» مكانها لافتة تشير إلى مستعمرة جديدة. هنا، لم تعد القضية مسألة احتلال بقدر ما هي إلغاء للملامح ونخر في ذاكرة الناس وعلاقتهم بالمكان.
يمثّل معرض «الصدمة» الذي يضم 48 صورة، قراءة فوتوغرافية في مفهوم القوة وقدرتها على تغيير مصائر الناس وتاريخهم، وبالتالي خلق تواريخ جديدة ملفقة. ما الذي سنصدقه هنا: الصورة أم الواقع؟ ما هو الحقيقي: البيت أم مشغل الخياطة أو صالة السينما؟ أمام هذه الالتباس، تدنو شبلي في مفردات صورها من الزمن، باعتباره أمراً مطلقاً يصعب المساس به. تؤسس لزمنها البصري الخاص، ولعدسة انحازت كلياً إلى الكثير من القضايا البحثية التي جعلت أعمالها حاضرة بقوة في أهم متاحف الفنون المعاصرة. لم تقف الفنانة داخل حدود فلسطين، بل قدمت معارض متنوعة تناولت المثلية الجنسية، والعمال المهاجرين في برشلونة، والأيتام في بولندا، وغيرها من القضايا التي تؤكد انحيازها إلى الإنسان في لحظات انكساره وهزائمه التي لا تنتهي.

حتى 16 أيار (مايو) المقبل ــــ Château de Sédières (كوريز/ فرنسا)
www.ahlamshibli.com