رحلة طويلة في توثيق الفنون الريفية والبدوية دمشق ــــ خليل صويلح
لفترة طويلة، ظلّ اسم مصطفى فتحي (1942ـــــ 2009) مجهولاً في المحترف السوري، إلى أن أعاد «المركز الثقافي الفرنسي» في دمشق اكتشافه قبل عقدين، في معرض «إشارات وزخارف على القماش». ثم غاب مرةً أخرى عن الأضواء. الغرافيكي السوري رسّخ اسمه في باريس باشتغاله على إعادة اكتشاف الرسوم التزينيية في الأقمشة الشعبية السورية وطباعتها بالقوالب والأختام التقليدية، ليجري اختياره بين أبرز خمسة غرافيكيّين من العالم في «الكتابة بالنسيج».
في معرضه الاستعادي الذي تستضيفه «غاليري أيام» في دمشق، في مناسبه مرور سنة على رحيله، نقف مذهولين أمام خصوصيّة هذه التجربة، وقدرتها على جذب الانتباه إلى أهمية الرسوم المحليّة في صوغ أشكال تجريدية مدهشة، قد تذكّرنا بأعمال بول كلي (1879 ـــــ 1940) التي استقاها من فنّ الرقش الإسلاميرحلة فتحي في توثيق الفنون الريفية والبدوية، بدأت باكراً عبر جولات ميدانية في الريف السوري، فكان محترفه في حوران (الجنوب السوري) نقطة انطلاق لأبحاثه الغرافيكية المعمّقة والنوعية والأصيلة. كان يمتطي دراجة هوائية ويذهب إلى الأرياف ومضارب البدو لاختبار نمط الرسوم والأشغال اليدوية التي يحوكها البدو والفلاحون. كان يعيد إنتاجها بتحميلها قيماً بصرية عالية، تضع في اعتبارها الإشارات والرموز الطلسمية التي أدت إلى بناء هذه الوحدات الزخرفية المجردة. لم يكتفِ بمشاهدة هذه الرسوم، بل اقتنى كل ما يتعلّق بأدوات الحرف اليدوية لجهة القوالب والأختام والأصباغ، رابطاً إياها بتاريخ الأختام الأسطوانية السورية القديمة، التي تعود إلى أواخر الألف الخامس قبل الميلاد، في مقاربات تضع مقترحات الحداثة الأوروبية في صلب تطلعاتها التشكيلية والجمالية. في أعماله نقف على تكوينات بصرية تماهي الخطوط بالألوان في عمارة تجريدية مبهرة، من دون إهمال علاقة هذه الكتل بالفراغ المحيط بها. كأنه حائك اللاوعي الجماعي. هكذا ستحضر تلقائياً ذاكرة محليّة مغيّبة، في انعطافات زخرفية تختزل تاريخ الخط والمنمنمات والنقوش الإسلامية والمؤثرات الزخرفية البيزنطية والفارسية على قماشة واحدة. للوهلة الأولى، نجد جداريات تشبه المتاهة البصرية، ونتساءل: أين تكمن كلمة السّر في اختراق هذه الأشكال المكررة والمتجاورة؟ لكن مهلاً، هناك إشارات ورموز قد ترشدنا إلى الأصول الأولى لهذه التمائم والتعاويذ، التي كانت ملاذاً روحياً لبشر هذه المنطقة في مواجهة ألغاز الحياة. ليس لدى فتحي جملة تشكيلية فائضة أو تزينيية، إنما يُشغل بعمق في تفكيك أسرار هذه الرموز، وسحبها إلى بساط لوني آسر في تكويناته وصياغاته التجريدية، والتنقيب عن معنى الخطوط المنحنية أو الأشكال البدائية وتوثيقها في تقنيات تحميها من الاندثار والزوال، إضافةً إلى إعادة اكتشافها بوصفها فنوناً أصيلة. كما يمنحها نبرة تشكيلية مغايرة تتكئ على الأبيض والأسود والرماديات، ربما لتأكيد قوة التناظر بين الكتلة والفراغ.
بانخراطه في قيم الفن الشعبي ومقترحاته البصرية، قد يكون فتحي أراد التخلّص من صدمة الحداثة التي خبرها في باريس، عبر نفض الغبار عن هويات تشكيلية محلية، لم يلتفت إليها المحترف السوري بجديّة. وهذا ما قاده إلى التنقيب عن آليات صناعة الفنون المحلية القديمة. وإذا بمشغله في حوران يصبح مكاناً هائلاً للخردة وبقايا النسيج، وأدوات الحرف التقليدية، وسط مساحة هائلة للعزلة، زاهداً بالحياة المدينية ونيوناتها البرّاقة. وهو استكمل فلسفته هذه بإقامة محترف آخر في دمشق، رغب في أن يكون متحفاً ميدانياً لمكتشفاته، بعيداً عن جدران الغاليريهات.
تنطوي أعمال فتحي على بعد أنثربولوجي يتطلع إلى توقيعات حداثية. نحن لن نقع لديه على ألوان مشرقة، كتلك التي يستعملها البدو والفلاحون في تطريز الأقمشة والبسط والسجاد،

تنطوي أعماله على بُعدٍ أنثربولوجي ذي تطلعات ومشاغل حداثية
بل على ألوان متقشفة، تفسح للأشكال والخطوط حيويتها التعبيرية، وبصمتها على القماش عن طريق الحدس. يستخدم الألوان الطبيعية للتراب والرمل وعصائر النباتات الصحراوية، ما يمثّل إيقاعاً حلزونياً في تراكم الأشكال، ومحاولة تأسيس أبجديّة جديدة قوامها الكتابات السحرية القديمة، والوشم البدوي والميثولوجيا المحليّة. كأنه يبني مفردات طوطمية على القماش، ليطوعها إلى رغبات غرافيكية تستمد من الذاكرة الأولى عناصرها الذهنية. كما أنّه يمتحن خبرات الأسلاف في حساسية لونية، تنطلق من عتبة المادة الخام إلى حياكة تأملية لهذه التعاويذ التراكمية، لتلغي البعد الاستنساخي للفنون البدائية، وتقوده إلى أسئلة ما بعد الحداثة، بخصوص إعادة الاعتبار إلى الفنون الشعبية، وزجّها في مهبٍّ فلسفي آخر. ذلك أن أعمال هذا الغرافيكي، تصب، في نهاية المطاف، عند محطات مفصلية في نبش الموروث الشعبي من جهة، وأحدث مقترحات المحترف العالمي من جهة ثانية. هكذا عبرت تجربته جغرافيات كثيرة، ابتداءً من معرضه الأول الذي أقامه «بيت ثقافات العالم» في باريس (1989)، مروراً بدمشق وعمان و«متحف الطباعة على الأقمشة» في مدينة مولوز الفرنسية، كأول فنان عربي يقتني هذا المتحف أعماله.


حتى 28 كانون الثاني (يناير) ـــــ «غاليري أيام» (دمشق) ـــــ للاستعلام:
+963116131088