تجارب ناضجة وجريئة تسجّل إرهاصات مرحلةزياد عبد الله
لم توثّق السينما الإيرانية حتّى الآن ما شهدته البلاد بعد الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة. لكنّ شريطي «نساء بلا رجال» لشيرين نشأت، و«طهران من دون رخصة» لسبيدة فارسي، حملا نقاط اشتباك غير مباشرة مع تلك الأحداث، فيما قدّم محمد رسولوف في «السهول البيضاء» قصيدةً بصرية تغرق بالرموز والمجازات.
فيلم نشأت «نساء بلا رجال» (2009، إنتاج فرنسي ـــــ نمساوي) مقتبس عن رواية شاهرنوش بارسيبور، يعيدنا إلى إيران عام 1953، مستحضراً اليسار الإيراني ودوره في تاريخ إيران الحديث، عبر حكايا أربع نساء يمثّلن نماذج مختلفة للمرأة الإيرانية. يحوم طيف الواقعيّة السحريّة على شريط المخرجة والفنانة المعاصرة (تجهيز/ فيديو...) المقيمة في الولايات المتحدة. يحكي الفيلم قصّة مونس، امرأة مسحورة بالراديو، لا تبالي بأخيها المتزمّت دينياً الذي لا يفكر إلا في تزويجها بعدما تجاوزت الثلاثين. هكذا، تلقي بنفسها عن السطح، لكنّها تعود إلى الحياة بطريقة غرائبيّة، وتمضي برفقة صديقتها فايزة في شوارع طهران التي تغلي بالتظاهرات المناهضة للشاه والمناصرة لرئيس الوزراء محمد مصدقتتعرف مونس إلى شاب شيوعي، فتصبح شيوعيّة، بينما تتعرض فايزة للاغتصاب. المرأة الثالثة في شريط نشأت هي زارين الصغيرة، ذات الجسد الضئيل التي يتناوب عليها الرجال في بيت دعارة. تفرّ من ذلك المكان، بعدما أصبحت عاجزة عن تمييز وجوه الرجال. مشهد استحمامها في حمام السوق، يقول لنا الكثير عن امرأة تفرك جسدها بالصابون إلى درجة تصبح مضرّجة بالدماء. تجد زارين وفايزة ملجأً لهما عند فخري، المرأة الرابعة التي قررت أن تعيش بعيداً في بيت ناء تحيط به الغابات... فخري التي كانت مشروع شاعرة صارت زوجةً تعيسة لضابط في الجيش الإيراني. سرد الفيلم يأخذ معه كل مفرداته البصرية إلى أمكنة تختارها المخرجة بعناية. تمسي الأحداث السياسية خلفية تطل برأسها أحياناً وتظهر النساء بوصفهن ضحايا مآزق اجتماعية ليست بعيدةً عن تلك السياسية.
في «طهران من دون رخصة» (2009)، تقدّم سبيدة فارسي مقاربة وثائقيّة معاصرة للمدينة، تلتقي مع فيلم بهمان غوبادي «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية». السينمائية التي صوَّرت شريطها بالهاتف الخلوي خلال الفترة التي تلت الانتخابات الإيرانيّة، أتت من فرنسا حيث تعمل لتزور مدينتها. وها هي تصوّرها كما هي بتناقضاتها وإصرار سكانها على الحياة، بحياتها الليلية، والطقوس الدينية والمسرحيات الكربلائية، بحيل الشباب الإيراني للتأسيس للانعتاق والحريّة ولو في الخفاء. هكذا نرى كاميرا فارسي في كل مكان، خلف سائق دراجة، أو في سيارة أجرة تلتقط القصص والحكايا. الهم الأكبر الذي يظلل مقاربة المخرجة لطهران، هو رغبتها في القول إنّها مدينة للحياة، وإن بشرها يعيشون ما يعيشون رغم هالة التزمّت التي تحاصرها، ورغم صورتها كمدينة محافظة. تصل سبيدة فارسي في فيلمها المصنوع وفق إملاءات ارتجالية وتقنيات متقشفة، إلى لحظة الانتخابات الإيرانية الأخيرة، لتترك الكلمة للصور الفوتوغرافية وهي توثّق لقطات لمتظاهرين في الشوارع، عبر شريط يتلصّص على طهران.

رحلة البحث عن الحريّة عشيّة الانتخابات الرئاسيّة
وفي مشاغل سينمائية مغايرة تماماً لما يقدّمه شريط سبيدة، يأتي فيلم محمد رسولوف «السهول البيضاء» ليضعنا مباشرة أمام بحر أبيض، وجسد مغمور بالملح، ونساء مغلفات بالسواد. يمضي رحمة في قاربه من مكان إلى آخر، ليجمع الدموع في قارورة... «السهول البيضاء» الذي حاز بطله حسن بور شيرازي جائزة أفضل ممثل في «مهرجان دبي السينمائي» الأخير، يمثّل مجازاً لمجتمع يعيش أحزانه بصمت، بما يحمله ذلك من نقد سياسي مبطّن، هو لعبة رسولوف الأثيرة. يتركنا المخرج لنبحر مع رحمة في قاربه، ونصل معه إلى امرأة متوفاة مغمورة بالملح، ثمّ نتبعه وهو يجمع دموع الندب والحزن عليها، ثمّ يأخذ جثتها في قاربه... رحمة لن يقاوم كثيراً رؤية جسدها. سرعان ما ينزع ما يغطي الجثة، فإذا بها صبي على قيد الحياة، لا يطمح إلا إلى الهرب من قريته والبحث عن والده. أمام تهديد هذا الصبي لرحمة بأنّه سيفضح ما كان سيفعله بالجثة، يوافق البحار على إبقائه معه، شرط أن يبقى صامتاً، كأنّه أبكم وأخرس.
نلاحق رحمة متنقلاً بين أقوام غريبة تعيش عزلة قاحلة، إلى جانب بحر ميت ملوحته قادرة على قتل مَن يسبح في مياهه. سيكون علينا الاستمتاع بحكايا شهد عليها رحمة وهو يجمع الدموع المترتبة على أحداثها. سنعثر على امرأة جميلة تُرسل وحيدةً في قارب ليبتلعها البحر قرباناً، قبل أن يلحق بها الصبي رفيق رحمة كي يُنقذها. يُلقى القبض على الفتى، فيُرجم ويُرمى به في البحر، وقد رُبط بحجر يبقيه في القاع. هناك مجازات كثيرة يقدمها الفيلم، كأن نكتشف أن الفتاة الجميلة ـــــ التي كانت ستتحوّل قرباناً للبحر ـــــ أصبحت زوجة رجل عجوز مقعد، يغسل رحمة قدميه بالدموع التي جمعها. الدموع العزيزة والمقدسة لن تجد مصيراً أسمى من غسل قدمي رجل مقعد، كذلك يطال العقاب كل من يملك نظرة مغايرة لنظرة القطيع، في فيلم مدجّج بالرموز والمجازات.