بعد حادثة نجع حمادي الشهيرة، صبّت الفضائيات الدينية الزيت على النار، وحوّلت كل شيء إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة. تحريض تلفزيوني وإعلامي عنيف تسيّدته لغة الانعزال
محمد عبد الرحمن
في المشهد الأول من فيلم «حسن ومرقص»، يدخل عالمان من علماء أزهر إلى مؤتمر الوحدة الوطنية وهما يتهامسان بأنّ المسيحيين في مصر يأخذون كل حقوقهم. ثم يسأل أحدهما الآخر «عمرك شفت شحات مسيحي». في اللقطة الثانية، نرى حواراً بين اثنين من القساوسة يؤكّدان فيه أنّ الوحدة الوطنية هي أمام الكاميرات فقط، لكن «اللي في القلب في القلب يا كنيسة». وبعدما تنتهي خطبة بطل الفيلم عادل إمام عن الوحدة الوطنية، يقف الأربعة يهتفون بحماسة «يحيا الهلال مع الصليب».
هذا الهتاف الشهير الذي نجحت من خلاله ثورة المصريين عام 1919 في مواجهة الاحتلال الإنكليزي، يبحث الآن عن منقذ، بعدما تحول لدى المسلمين إلى «يحيا الهلال ويسقط الصليب» والعكس صحيح طبعاً بالنسبة إلى المسيحيين المصريين، الذين أفاقوا ليلة عيد الميلاد على فاجعة نجع حمادي (محافظة قنا ـــــ جنوب مصر). تلك الحادثة التي أودت بحياة سبعة مسيحيّين وشرطي مسلم. هذا الأخير نسيه الجميع وسط الصدمة، بينما كانت وفاته دليلاً دامغاً على أن الفتنة لا تفرّق بين مسلمين ومسيحيين في مصر، والدم الذي سال أمام كنيسة نجع حمادي كان مصرياً خالصاً. غير أن نسيان الشرطي المسلم كان متوقعاً لأنه لا يهم كثيراً مَن يرفعون قواعد بناء الفتنة الطائفية في مصر منذ سنوات. إذ إنّ المسؤولين الحكوميّين يتعاملون مع كل واقعة جديدة باعتبارها حدثاً فردياً، وهو ما تكرّر مع نجع حمادي، حيث تصادم فتحي سرور رئيس البرلمان المصري مع النائبة جورجيت قليني بشأن مسمّى الحادث: هل هو فردي كما يرى رئيس البرلمان أم طائفي كما تؤكد قليني، التي صارت بطلةً بالنسبة إلى الأقباط بعدما شنت هجوماً على مجدي أيوب، أول محافظ قبطي في مصر. وهو حاكم الإقليم الذي وقعت فيه الكارثة، وقد حمّلته قليني مسؤولية عدم حماية الأقباط كي لا يُتهم بالانحياز إليهم. أمّا المتطرفون من الجانبين، فيسيرون على خط مواز مع الحكومة، لكن بأهداف مختلفة. فإذا كانت السلطة لا تريد معالجة الأزمة من جذورها، فإنّ المتطرفين يريدونها مشتعلةً وسط هذا التقاعس الرسمي.
وبين هذا وذاك، بدأ النسيج الوطني الذي كانت تتباهى به مصر يتحلّل تدريجاً، وبات أنصار التعايش والمواطنة أقليةً لا نسمع لهم صوتاً. وكما ظهر في مصر جيل جديد لا يدرك خطورة إسرئيل كما كان يدركها أسلافه، فإنّ هناك أجيالاً لم تسمع عما حدث في ثورة 1919 ولا تريد أن ترى الصليب يجاور الهلال. والأمر ينطبق على الفضائيات الدينية ـــــ إسلامية ومسيحية ـــــ التي تمثّل مرآة لمجتمعها. هنا، تتحول الأحداث والمشكلات البسيطة إلى قنابل موقوتة يمكنها الانفجار في أي لحظة، بعدما اختفت لغة العقل والتسامح، وبات الانعزال الحل الوحيد. هكذا، وفي كل الأخبار التي تتناول العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، تتراجع تعليقات المسلمين المصريين التي تدعو إلى التهدئة والتسامح على الإنترنت، ليس لأنّ عدد المؤمنين بالتسامح قد قلّ بل لأنّهم يمثّلون أغلبية صامتة مشغولة بالبحث عن مورد رزقها في بلد يعاني من تردي الأحوال الاقتصادية، فيما المتفرغون للتحريض يدينون الحادث، لكنهم يرفضون حزن المسيحيين، ويقولون إنّهم يأخذون حقوقهم في مصر أكثر من المسلمين (!!). أما مَن يقرأ موقعي «الأقباط الأحرار» و«الأقباط المتحدون» وكان مقيماً في الخارج، فسيظن أنّ المسيحيين في مصر يحملون الصليب على أكتافهم في الشوارع وفوق جباههم تاج الشوك. ولو دخلت مواقع إسلامية، وخصوصاً تلك السلفية، فلن تجد موادّ تشجّع على الوحدة بين أبناء الوطن، لأنّ معظم شيوخ السلفية المسيطرين على الشارع بأفكار

وسط هذه الحرب الإعلامية، لا تجد بسهولة مواقع دينية تشجّع على التعايش والحوار

قادمة من شبه الجزيرة العربية، لا يعترفون أصلاً بالمواطنة، ويذكِّرون المسلمين في خطب الجمعة بأنّ مشاركة المسيحيين فرحة الأعياد غير مطلوبة إلا في أضيق الحدود. كما يضع بعضهم المسؤولية على المسيحيين في ما يحدث من فتن طائفية.
وسط هذا الصراع الإلكتروني الطائفي، لا يمكن أن تجد بسهولة مواقع دينية تشجّع على التعايش والحوار. والأمر نفسه ينطبق على القنوات الدينية، رغم أن بعضها مثل «أزهري» نشرَ إعلانات تعزية في الصحف، وحتى القنوات السلفية مثل «الناس» فتحت باب الرسائل القصيرة لتلقّي رسائل العزاء للمصريين في ما حدث ليلة عيد الميلاد. لكن تلك القنوات ومعها الشاشات المسيحية طبّقت المثل المصري الشهير «يقتل القتيل ويمشي في جنازته». فهي طوال الوقت تحض على الانعزال، بل تتبادل الطعن في عقيدة كل دين... فهل ستكفي دموع التماسيح لمنع حوادث مقبلة؟ الإجابة لا بكل تأكيد. وإذا استمر التحريض التلفزيوني والإعلامي في إذكاء الفتنة، فسيأتي يوم يتظاهر فيه حسن قائلاً «يحيا الهلال» في مواجهة مرقص الذي سيصرخ «يحيا الصليب»!


... طريق الإسلام؟

منذ فترة، نشر موقع «طريق الإسلام» موضوعاً حمل عنوان «المتهم الأول في نجع حمادي» وقد جاء في مقدمته: «ما حدث ليلة الأربعاء في نجع حمادي من قتل عشوائي للنصارى يمثّل نتيجة طبيعية للسياسة التي مارستها الكنيسة المصرية منذ جلوس شنودة الثالث (الصورة) على سدّتها. فالعنصرية والطائفية والدعوات المتطرفة والسياسة الحمقاء كلّها اجتمعت معاً لتخرّج لنا جيلاً من النصارى المشوّهين نفسياً، الذين يعتقدون أن الإسلام هو سبب كل نكباتهم الشخصية والدينية والاجتماعية».