تستضيف بيروت، ابتداءً من هذا المساء، وجهاً بارزاً من المحترف السوري. تحت عنوان «أقنعة الجسد»، يعرض الفنان المقيم بين باريس ودمشق مجموعة من أعمال مرحلته الأخيرة التي تتسم بالجرأة، وتسعى إلى إعادة الاعتبار للجسد، سؤالاً جماليّاً وثقافيّاً، وجوديّاً وميتافيزيقيّاً... كادت تطمسه المرحلة الغارقة تحت ركام من الذعر والشبهات والأصوليّات

خليل صويلح
فوجئ أسعد عرابي أخيراً بامتناع صاحب مطبعة «بردى» الدمشقية عن طباعة كاتالوغ يضم أعماله التشكيلية الجديدة ــــ بذريعة أنّ اللوحات «فاضحة» ــــ ضارباً عرض الحائط بالموافقة الرسمية على طباعة هذا الكاتالوغ. التشكيلي السوري الذي يُفتتح اليوم معرضه في «غاليري أيام» في بيروت، وجد نفسه في محنة حقيقية، وخصوصاً بعد تضامن بقية المطابع مع مطبعة «بردى»، إضافة إلى أنّه وجد نفسه محاصراً في دوّامة الشائعات التي يتداولها الوسط الثقافي السوري من دون دليل. إحدى هذه الشائعات أن الكاتالوغ يضم صوراً فوتوغرافية عارية لأسعد عرابي نفسه، ما نفاه هذا التشكيلي بشدة، معتبراً أن هذه «الحرب الاستباقية» محاولة لإفشال المعرض، وصورة لما آل إليه الذوق الفني في مدينة كانت في الستينيات، مثالاً طليعياً للحداثة، نتيجة لتحالف أصوليات مختلفة، تجد في العاري «التنزيهي» مسّاً في قيمها المستقرة ومكبوتها التاريخي المتزمّت.
في محترفه في حي «الجسر الأبيض»، قبيل سفره إلى لبنان، يبدو أسعد عرابي منشغلاً في الإعداد لمعرضه البيروتي الذي يحمل عنوان «أقنعة الجسد». نستعرض شريطاً بثه التلفزيون السوري عن أعماله الجديدة أخيراً، من دون أن يطال المنع أياً من اللوحات التي أنجزها للتو: ثلاثون لوحة من الإكريليك، شاهدنا ما يماثلها في معرض سابق لجهة النفحة الإيروتيكية التي تستمد جذورها من الفنون المحلية القديمة. في عنوان المعرض الجديد، يزاوج عرابي بين العاري والمتحجّب في ثنائيات متضادة ومتجاورة تشتغل على منطقة تشخيصية، تبدو كأنها إعادة اعتبار إلى رسوم المخطوطات العربية والإسلاميّة وتصاويرها. لكنه هنا يقتحم مناطق جريئة في مكاشفات الجسد.
يقول في تقديمه المعرض «أصبح رسم العاري بسبب من التردي الثقافي التشكيلي، نوعاً من المغامرة، حتى لا أقول الخطيئة والمخاطرة بالسمعة الفنية، في أوساط ذوقية تعصبية متزمتة».
ويتذكّر كيف أن كلية الفنون الجميلة في دمشق خلال الستينيات من القرن المنصرم، كانت تضم في محترفاتها ستة «موديلات» أنثوية وذكورية عارية، قبل أن تسدل الستارة إلى الأبد على هذا التقليد الأكاديمي في نهاية السبعينيات. هكذا اختفت مادة التشريح البشري الحي، وانتقلت العدوى إلى المناهج المدرسية ووسائل الإعلام ودور النشر.
يزيح عرابي بحركة يد ساخرة، تهم البورنوغرافيّة عن أعماله الجديدة. ويربط مرحلته الجديدة بمنطق الطوابق المعمارية والحساسية المشرقية في اختيار العناصر وتمفصل تكوينات الشخوص، سواء العارية منها أم المتحجبة. وهو على أي حال مشروع تراكمي في تجربته التي تتكئ على أبعاد صوفية في المقام الأول، عبر اشتغالها على ثنائية العاري والمتحجّب، والمتخفي والمكشوف، والظاهر والباطن. وما تجسيد العاري إلا ذريعة لحميمية الكينونة الجسدية في الخط واللون. وتالياً، فإن ما يرسمه عرابي هنا، ليس انعطافة فجائية في تعبيريته، بقدر ما هو تناوب في رصد تحولات المدينة وأجساد قاطنيها «بين الانخلاع المطلق من الألبسة والتحجّب المطلق بها» على سطح تصويري واحد.
ننتبه في اللوحات إلى أجساد مقلوبة، كأنها في حالة سقوط وارتطام، على طريقة Georg Baselitz جورج بازليتز (1938). يوجّه عرابي تحيّة غير مباشرة إلى هذا التعبيري الألماني. كما يستعيد في أعمال أخرى ميثولوجيا الشبق الشرقي، من خلال إشارات حسيّة تمزج بين ما هو آدمي وحيواني في خطوط ثخينة، وخلفيات جريئة بالأحمر أو البنفسجي. يوضح صاحب «صدمة الحداثة في اللوحة العربية» أنه رسم اللوحات بوحي وتحريض من موسيقى فيفالدي. تلك الموسيقى التي اقتبسها من مجون البندقية، لكنها هنا تذهب إلى الشطح الصوفي، في أعلى درجاته التصويرية المتفلتة من قوانين الحشمة. هكذا يتحوّل الجسد رمزاً للعزلة لا للاشتهاء، في تناوب الأسود والأبيض، واختلاط معالم الذكورة بالأنوثة في التباس وجودي ينفي الهوية الصريحة للشخوص عبر المحو والإلغاء والانشطار «لعله تشريح النواهي والطمس الانتحاري للإحساس بالذنب، وإعدام للرغبات الجامحة المكبوتة» يقول.

مطبعة «بردى» الدمشقيّة امتنعت عن طباعة كاتالوغ المعرض بذريعة أنّ اللوحات «فاضحة»!

تتلمس تعبيرية عرابي مناطق جديدة ومبتكرة في حوار مضمر مع أعمال طليعية يقف على رأسها التشكيلي الفرنسي Gérard Garouste جيرار غاروست (1946)، وإذا بمسامات اللوحة تتفتح على هواء آخر، كنوع من الإدانة الصريحة لعولمة الجسد وتدمير صورته البشرية.
من مقلب آخر، تسعى هذه الأعمال إلى استعادة مساحة أصيلة نُفيت وطُمست تدريجاً في المحترف العربي، تزامناً مع اندحار المشروع النهضوي والأطروحات الحداثية، وعودة الخطاب المنحول، القائل بـ«تحريم الصورة». يلاحظ عرابي، وهو ناد تشكيلي أيضاً، كيف غاب الموديل العاري شيئاً فشيئاً عن المجال البصري، سواء في اللوحة أو النحت، لمصلحة أشكال تجريدية، وحروفية استهلاكــــــيــــة، وتعبيرية اجترارية مأزومة. تلتقي أطروحاته تصويرياً مع مقترحات ما بعد الحداثة، في اشتباكها مع الـ«بادي آرت» والفيديو والرقص التعبيري.
ما يسعى إلى التقاطه، هو المجاز البلاغي للجسد، وتوقه للتحرر من مكبوته التاريخي الثقيل، في شطح هذياني ولوني تتحكم به ضربات فرشاة نزقة، لا تتوقف عند حدود فاصلة بين الكتلة البنائية للعاري والمتحجّب. لذلك تراه يقول: «حسم قرار اتجاه اللوحة والتوقيع لا يمكن التنبؤ بهما إلا في ختام العمليّة الإبداعيّة».

حتى 22 كانون الثاني (يناير) المقبل ــــ «غاليري أيام» (وسط بيروت) ــــ للاستعلام: 01/374450
www.ayyamgallery.com


صدمة الحداثة

يوقّع أسعد عرابي (الصورة) هذا المساء في «غاليري أيّام»، كتابه «صدمة الحداثة في اللوحة العربية» (دار نينوى). يقع هذا المشروع في صلب عمله النقدي، ومسعاه إلى إزاحة اللثام عن تصورات خاطئة واستشراقية ــــ منها تحريم الصورة ــــ طاولت تاريخ التصوير في المجتمع الإسلامي بضغط الاستعمار الثقافي... ويعرّج الفنّان على موضوعات إشكالية تتعلق بنزاهة التأريخ للمحترف التشكيلي العربي، وظاهرة إقصاء تيارات رائدة وطليعية، ونفيها لمصلحة حفنة من الفنانين المعولمين.