في ألبوم أنور ابراهم الجديد، تسير الأنغام بسلاسة: تأثرات شرقية وأفريقية وهندية، وقالب شبه موحَّد تُجبَل فيه معظم المقطوعات...
بشير صفير
بعد أسطوانات حققت له شهرةً كبيرة، يضيف أنور ابراهم إلى رصيده «عيون ريتا المذهلة». التركيبة التي اعتمدها هنا تختلف عن الأسطوانتَين السابقتَين («رحلة سحر» و«خطوة القط الأسود»، بيانو/ عود/ أكورديون)، وتحاكي «مقهى أستراخان» (كلارينت، عود وإيقاعات شرقية). إذاً الألبوم الجديد عملٌ لرباعي يتألف من عود وكلارينت باص (كلاوس غِزينغ) وباص كهربائي (بيورن ماير) وإيقاعات شرقية (خالد ياسين). وهنا نلفت إلى عازف الإيقاعات اللبناني خالد ياسين الذي نفَّذ مهمّته بجدارة، ولو أن إمكاناته لم تتحقق كاملة بسبب محدودية هامش التعبير الحرّ في التسجيل.



مقطع من "Hammerklavier" (بيتهوفن)








بداية، لننسَ العناوين الكبيرة مثل «التفاعل بين الغرب والشرق» ولنحلّل موسيقياً، بعيداً عن التراث والتطوير. نبدأ من حيث انتهى النقاش عن تجربة ابراهم الموسيقية، أي من حديث زياد الرحباني عن الفنان التونسي. ما يهمنا هو الشق الموسيقي، وتحديداً مسألة الصوت الأحادي (مونوفونيك) في أعمال ابراهم. إنّ ملاحظة الرحباني أصابت نقطة الضعف مباشرةً، إلا أنها ناقصة وغير قابلة للتعميم، وهو يعرف ذلك بالتأكيد، لكنّ



مقطع من "متتالية التشيلّو الثانية" (باخ)








إطار الحديث لم يسمح له بالدخول في تفاصيل تقنية. الكتابة الأفقية، أو الأحادية الصوت، ليست «عيباً» أو ضعفاً. هي فقط أدقّ، وعوراتها تكون نافرة متى وُجِدَت. كبار المؤلفين كتبوا روائع أحادية الصوت. متتاليات التشيلو الست كتبها باخ على هذا الأساس، رغم تخلل العمل استثناءات نسمع فيها صوتَين متزامنَين، وهو أمرٌ تتيحه آلة التشيلو. إلا أنه عرف أن عدم تدعيم العمل بكتابة هارمونية معقدة (وهو الملك على عرش تعدد الأصوات)، يجب أن تقابله متانة في اللحن وتكثيف للتعبير كي ينخر في العظام.



مقطع من "the lover of beirut" (أنور أبراهم)










وتكوين اللحن (حتى في الارتجال) يكون تدريجاً على نحو غير متوقع ومبرّر معاً. لذا، في هذه اللعبة، الجمال وحده لا يكفي. وهذه نقطة ضعف في عمل ابراهم الجديد، وهي طاغية هنا أكثر من قبل. في بعض ما قدمه سابقاً، نجح أنور ابراهم في خلق طريق شيّقة، تصل فيها الجملة اللحنية العامة إلى ذروة «منطقية» وتستفزّ إيجاباً. أما هنا، فالأنغام عادية. بعضها جيّد والآخر بديهي. بعضها متشابه والآخر مستنزَف. الأهم أن ابراهم لم «يستغلّ» الآلتَيْن النغميتَيْن اللتين ترافقانه (الباص والكلارينت باص). بوجود آلتين أو ثلاثة (أو أكثر)، يجب خلق الحوار وإغناء اللحن بفواصل وأنغام مرافقة للحن الأساسي وتكون ـــــ وفق أهميتها ـــــ منكفئة عنه أو مساوية له لجهة الزخم.

موسيقى يصعب تنميطها فلنسّمها «مريحة»
من جهة ثانية، وبما أن موسيقى ابراهم يصعب تنميطها، لا بدّ من ابتداع مقاربة خاصة، تقوم على معنى عبارة «مريح» كصفة (وصف جوهر هذه الموسيقى)، وكنتيجة (تأثيرها في المستمع). هذان المفهومان يؤديان إلى معنيَين متناقضَين عند إدخال عنصر هام هو ذائقة المستمع. في الموسيقى، لا تحمل عبارة «مريح» المعنى ذاته عند كل الناس! وإلا فما الفرق بين مقطوعة بيانو لكلايدرمان والحركة الثالثة من الـHammerklavier لبيتهوفن؟ ما معنى أن تكون الموسيقى «مريحة»؟ وما معنى أن يعدّها المستمع «مريحة»؟ لنعطِ مثلاً: مسألة حسابية سهلة هي مريحة، بمعنى بسيطة. المسألة
ذاتها ستكون مريحة لتلميذ كسول، بينما تُنفِّر التلميذ المجتهد. أما المشكلة فهي عندما يختلط الأمر على مَن يجد المسألتَيْن متساويتَيْن، لمجرد أن واجب حلّهما غير مطروح أمامه أساساً.



مقطع من "the astounding eyes of rita"(أنور أبراهم)










في «عيون ريتا المذهلة»، تسير الأنغام بسلاسة (مملة أحياناً). تأثرات شرقية (مع تهميش لربع الصوت!)، وأفريقية وهندية. قالب شبه موحَّد تُجبَل فيه معظم المقطوعات: بدايةٌ متكررة، دخولٌ للمكتوب ذي الطابع المرتجَل، تقاسيمٌ مرسلة و/أو موقَّعة، وحديثٌ متزامن بين آلتَيْن أو ثلاثة، موحَّد النغمات في جزئه الأكبر... وأداءٌ متقن يعكره (أو يخدمه؟) إحساس مزعج (أو مطلوب؟) بالصدى الطفيف الداعم لفكرة المنظور المتجانس وغير المحدود بأفق (أساس موسيقى الـ Ambient). في الموسيقى، ثمّة من يفضل التأمُّل على الألم.