مستعيداً رؤاه الكابوسية في قبو كنيسة اليسوعيّةحسين بن حمزة
إنها القيامة؟ هذا ما نقوله لأنفسنا بعد أن ننزل الدرج المؤدي إلى قبو كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين (شارع مونو) الذي اختاره سمير خداج (1939) فضاءً ومكاناً لتجهيز جديد يحمل عنوان «سفر». ليست كابوسية الأعمال المعروضة ولا ازدحامها بمشاهد تذكِّرنا بتخيلاتنا عن أهوال الآخرة، ولا الرعب المقذوف في وجوهنا من الكائنات والمسوخ التي تملأ الأعمال... ليس هذا وحده ما يثير هذه الصرخة التي تكاد تخرج من حلقنا، بل كثافة الرؤى والمعاني البصرية والفلسفية الصادمة التي تطل علينا من داخل ممارسات وأشغال هذا الفنان ذي النبرة الخاصة الذي اعتدنا تلقّي ضرباته التشكيلية المفاجئةٍهذا ما فعله في تجهيز Satyricon (2003) محتلاً مبنى «دوم سيتي سنتر» في الوسط التجاري بتماثيله ومنحوتاته ورسومه المجلوبة من المأدبة الإيطالية الفاجرة والوحشية التي ألفها بترونيوس، وحوّلها فيلليني إلى فيلمٍ سينمائي شهير. ثم تجهيز «برج بابل» (2006) الذي ملأ أربعة فضاءات مختلفة في بيروت. وها هو اليوم يدعونا إلى جولةٍ أخرى مع مسوخه الغارقة في كوابيس لا شفاء منها. إنها جولة رعب مع كوابيسنا التي ندأب على رميها خلف ظهورنا، ثم يأتي خداج ليضعنا وجهاً لوجه أمامها.
لكن لماذا يضع خدّاج معرضه الحالي في باب التجهيز، ما دام أغلب ما نراه هو لوحات ورسوماً ومنحوتات؟ السبب عائد إلى علاقة وثيقة بين المعروضات والمكان. خداج كان يعرف مسبقاً أنه سيعرض أعماله في هذا القبو. لا يرسم خداج فناً صالونياً أو لوحات ومنحوتات تقليدية من النوع الذي يمكن عرضه في أي مكان. ثمة حوارٌ متبادل بين أعماله والمكان الذي يعرف مسبقاً أن هذه الأعمال ستُعرض فيه. هل للكنيسة بوصفها مكاناً يُمارس فيه الإيمان، علاقة بمشاهد القيامة التي نراها؟ لا نستبعد أن يكون خاطراً كهذا، ونحن نتفقّد مخاوفنا وقشعريراتنا وكوابيسنا الأشد ظلمةً وعنفاً ماثلةً أمامنا، بحسب مخيلة وألوان سمير خداج. يُصدّق الأخير على قراءتنا لمعرضه، مستغرباً أن يُفاجئ زواره بالرعب البادي في أعماله، ويتناسَوا الرعب الذي يتحكم بالعالم الحقيقي الذي يعيشون فيه.
بحسب القبو المؤلف من غرفتين متصلتين بقنطرة، وزّع خداج أعماله على قسمين أو مساحتين متتاليتين: تضمّ الأولى أعمالاً ملونة معرّضة لإنارة عادية، بينما تمتلئ الثانية بأعمال منفّذة بالأسود والرمادي وموضوعة تحت إنارة شحيحة تزيد من قتامة الأعمال وقسوتها. هناك أعمال بقياسات كبيرة مثبتة على الجدران وأخرى أصغر ملاصقة للأرضية. بطريقة ما، نستعيد الرسوم التي زيّن بها ميكلانجلو كنيسة الـ«سكستين»، لكن لا مجال للمقارنة بين تناغم تلك الرسوم الخالدة والرعب الذي يقترحه سمير خداج على جدران قبو الكنيسة اليسوعية الوادعة والصغيرة.

مفردات مثل الموت والفناء والبعث والحساب والجحيم تصبح عناصر بديهية في لوحاته

الألوان والإنارة هنا ليستا الفرق الحاسم بين معروضات القسم الأول والثاني. نفكر في أننا ننتقل من رعبٍ مضاء إلى رعبٍ معتم، لكننا ننتبه إلى أن المسوخ الحاضرة بكثافة في القسم الأول تغيب تقريباً في القسم الثاني، إذ يسكن لوحاته بشرٌ يشبهوننا. لكنهم إما عاجزون على كراسٍ مدولبة وإما محتضرون في مصحّات معزولة. في الحالتين، لا مكان للجمال والدَّعة والاطمئنان. «كل جمالٍ مرعب» قال ريلكه في إحدى مراثيه الشهيرة. فن سمير خداج موجود في هذه الرؤيا الكابوسية للعالم. إنه يقلب الجمال ويُرينا قفاه القبيح والماجن. تكاد هذه الممارسة أن تتحول إلى سمة ملازمة لشغل هذا الرسام الذي يقف على حدة في خريطة الفن اللبناني والعربي.
لوحاته أشبه بمسرح تسوده جموع مشوهة، غفيرة ومتلاطمة. أليست القيامة «يوم الحشر» أيضاً؟ نستعيد هذا الوصف الديني، ونحن نرى تفصيلاً مأخوذاً من لوحة «يوم الدينونة» للرسام الهولندي جيروم بوش (1450ــــ 1516) الذي دأب على خلط الواقع بالخيال، والجمال بالدمامة، واللذة بالشبق والفسق. يوجِّه خداج تحية مباشرة إلى بوش ويتلقى تأثيره كما فعل قبله رسامون مثل: بروغل وروبنز وغويا... وكتّاب مثل: لوتريامون في «أناشيد مالدورور»، وغوستاف فلوبير في «إغواء القديس أنطوان»، وفيكتور هوغو في «أحدب نوتردام». شغل هذا الفنان اللبناني يعيدنا إلى تاريخ طويل من الفن الذي لعب على تشوّه الملامح البشرية وتحطّم المقاييس وفساد الأخلاق والقوانين.
«سفر» خداج، بهذا المعنى، هو سفرٌ في جحيم هذه العوالم واستعادتها كسمات شاقّة ملاصقة للوجود البشريّ. ما نراه هو معرض لدرب الآلام الذي ينتظر الإنسان منذ لحظة ولادته. يستثمر خداج هذه الرؤيا الدينية ويحولها إلى أساس بصري لأعماله. مفردات مثل الموت والفناء والبعث والحساب والجحيم تصبح عناصر بديهية في لوحاته. علينا ألا ننسى أن الرسام الذي استقر في باريس منذ 1989 عاش سنوات طويلة أسفل مشفى مخصص لمرضى السرطان. مجاورةُ الموت البطيء ليست شرطاً لحضوره في الفن، لكن فنّ الاحتضار عرف كيف يتسرَّب إلى عالم خداج ويطرد البهجة إلى الأبد.


حتى 15 تشرين الثاني (نوفمبر) في قبو «كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيّين» (بيروت) ــــ للاستعلام: 01/202422