محمود عبد الغنييقدم سعيد عاهد كتابه «قصة حب دكالية» (اتحاد كتاب المغرب) باعتباره «محكيات». ودكالية صفة منسوبة إلى منطقة دكالة البدوية في شمال غرب المملكة المغربيّة. تضمّ هذه المنطقة أهم القبائل وأغناها وأكثرها شهرة في مقاومة الاستعمار البرتغالي بين القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر. عندما يصنّف الشاعر عمله بالمحكيات، فهل ينوي توجيه القارئ توجيها صارماً ليتلقَّى العمل تماماً كما يريد صانعه، ومن دون أي تأويل؟ هذا سؤال ضروري، لأنَّنا نتلقَّى الكتاب المصنف في خانة المحكيات بطريقة معينة، ونتلقاه نفسه بطريقة أخرى عندما يصنَّف باعتباره محكيات ذاتية. في حالة سعيد عاهد، ينتهج المؤلف سبيل المحكيات سليلة التخييل، من دون الإشارة إلى المحكيات الذاتية التي هي لون آخر من النصوص، يرتبط بحياة صاحبها على وجه الخصوص.
لكن لماذا تنازل سعيد عن مفردة ذاتية واكتفى بالمحكيات؟ ربما فعل ذلك خوفاً على نصية كتابه. فهو يريده قصة لا واقعة، وتخييلاً لا كتابةً وقائعيةً. نتوقف مثلاً عند نص «أوريانا فالاتشي» (ص 69) وهو بورتريه للصحافية والكاتبة الإيطالية الشهيرة الراحلة التي أثارت الجدل بمواقفها العنصريّة ضدّ العرب

نصوص غنية تمر أمامنا كالشهاب المستعجل

والمهاجرين منهم إلى أوروبا. وتيرة هذا النص تختلف كلياً عن نصوص الكتاب الأخرى. وحتى إذا أردنا إثبات قرابة ما مع النصوص الأخرى فإننا ننعته بسيرة فكرية مختصرة لتلك المرأة. تبني محكيات «قصة حب دكالية» انتماءها إلى المحكي الذاتي تدريجاً. هكذا، يقدم عاهد نفسه في كتابه باعتباره مواطناً عادياً وليس شخصيةً فذَّة. هو لا يتحدث إلّا عن الأمكنة التي ولد وعاش فيها، أي «مازاغان»ـــ كما كان يسميها البرتغاليون ـــ أو مدينة الجديدة اليوم. كلَّما كانت مواطنية صاحب السيرة بسيطة، كلما ضاقت المجالات التي عرفها أو دخَل إليها؛ وكلَّما كانت مواطنيته «مميزة»، كلّما اتّسعت مجالات تجربته.
في محكياته هذه، يقدم سعيد عاهد نفسه مواطناً بسيطاً، فلا يتحدث إلا عن مسقط رأسه، تلك المدينة التي تربطه بها علاقة رومانسية قلَّ نظيرها. صحيح أنّ تجربته الغنيّة كانت تسمح له بتوسيع مكنونات كتابته، إلا أنّه آثر العكس. فلم يتحدث عن فرنسا التي درس فيها وخبر حياتها، ولا عن باقي المدن التي زارها أو سمع عنها أو تخيّلها. باستثناء النص الأخير في الكتاب «لقاء باريس» (ص.73).
بعد كلِّ ذلك، نسأل إن كان الكتاب يستحقّ فعلاً تصنيفه ضمن خانة المحكيات. عاهد يقدم نفسه رجلاً ترضخ أفعاله لفعل التاريخ الذي يتحكم فينا ويوجه مصائرنا. في هذا الإطار، يمكن اعتبار محكيات «قصة حب دكالية» نصوصاً غنية رغم أنّها تمر أمامنا كالشهاب المستعجل... تمرّ أمامنا عميقة في إطار تطور العلاقة بين الأدب والحياة والسرد والحياة، كما يقول بول ريكور.
سعيد عاهد كاتب باللغة الفرنسية أيضاً. أصدر فيها مجموعتين شعريتين ونقل منها إلى العربيّة العديد من الكتب. لكنَّه عاد بنصه إلى أصله، إلى لغته التي تمرّ اليوم بمحنة. لقد خاب ظن سعيد في أوريانا فالاتشي عندما أصدرت كتابها «السعار والكبرياء» مشبهة العرب والمسلمين بالجرذان التي تتوالد بسرعة لتخريب الغرب. ها هو واحد من أبناء اللغة العربيّة يعود ليكتب بها... عودة شبيهة بالمناصرة في أصعب الأوقات.