اختتام المهرجان الألماني الذي احتفى بأدب الضادبرلين ــ ياسين عدنان
الطريق إلى برلين تمرّ عبر مطار فرانكفورت. أغلب الأدباء العرب الذين شاركوا في الدورة التاسعة من «مهرجان برلين العالمي للأدب» غيّروا طائراتهم هناك. وما يَصدُق على سفر الأشخاص، قد يصدق على الثقافات أيضاً. لذا حلَّ الأدب العربي ضيفاً على برلين من 9 حتى 20 أيلول (سبتمبر) في محاولة لإعادة الاعتبار لهذا الأدب بعد سقطة معرض فرانكفورت المدوّية. منذ البداية، كان واضحاً أنّ إدارة «مهرجان برلين» اختارت التحضير لدورتها وفق مقاربة تختلف عن حسابات التسوية والترضيات ومنطق التوافقات السياسية والإقليمية الذي نهجه «معرض فرانكفورت للكتاب» عام 2004، فكانت نتيجته يومها فضيحةً أعطت نتائج عكسية، وأسهمت في تراجع حركة الترجمة والاهتمام بالأدب العربي في ألمانيامهرجان برلين» تبنّى استراتيجية مختلفة في انفتاحه هذا العام على العالم العربي. حافظ أولاً على المسافة الضرورية من الحكومات والمؤسسات العربية الرسمية. واقترح محاور جادة وجريئة بعضها مثير للجدل. ثم اختار توليفة فريدة من المبدعين العرب من مختلف الأجيال، من دون أن يكونوا بالضرورة من الأسماء الكبيرة المُكرّسة. هكذا التقى في العاصمة الألمانيّة أربعون كاتباً من 13 دولة عربية، للمشاركة في ندوات حظيت بمتابعة قوية. أمام جمهور غفير، ناقشت علوية صبح وجمانة حداد ورشيد بوجدرة حضور الجنس في الأدب العربي، وساءل مالك علولة وشتيفان فايدنر وفرانسوا زبال النظرة الغربية إلى العالم العربي، منتقدين تركيز الإعلام الغربي، في تقاريره عن العالم العربي، على الإرهاب والحروب والتعصّب الديني واضطهاد المرأة. مارغريت أوبانك صاحبة مجلة «بانيبال»، والمترجمة الألمانية لريسا بلندر، والمستشرق هارتموت فاندريش، والمصري حسن حماد صاحب مجلة «لسان» السويسرية، طرحوا سؤال: أين يستطيع القارئ الغربي أن يجد الأدب العربي؟ وكيف يبحث الناشرون في الغرب عن المؤلفين العرب؟ ثم من يقرر ترجمة أي عمل عربي ونشره؟ فيما طُرحت معضلة الرقابة في الوطن العربي، في ندوة «السلطة والثقافة» التي شهدت مشاركة طالب الرفاعي، وعلوية صبح، وكاتب هذه السطور.
أما الوزير الفرنسي السابق من أصل عربي عزوز بقاق، فقدّم مع الأميركي إليوت فينبرغر، والبريطاني من أصل هندي بنكاش ميشرا، والألمانية نسلا كلك، والعراقي نجم والي، تصوّرات مستقبلية إلى الحوار الثقافي مع العالم العربي، مع التوقّف عند ما ينبغي تغييره لترميم العلاقة بين العرب والغرب. فيما شارك أدباء من السعودية واليمن مثل يوسف المحيمد وعلي المقري وأروى عثمان في ندوات خُصِّصت لأدب شبه الجزيرة العربية: بين الصمت وكسر المحرمات.
برْمَج مهرجان برلين ندوات أخرى ذات طابع إقليمي أو قطري. هكذا خُصِّصت ندوة لمساءلة علاقة المغرب العربي بأفريقيا السوداء، وندوة عن التَّوق الفلسطيني بمشاركة علاء حليحل ومحمود شقير، وأخرى عن الجُرح العراقي مع علي بدر وجبار ياسين.
وحرصت التظاهرة الألمانيّة على الاحتفاء ببعض التجارب الأدبيّة

وجّه المهرجان تحيّة إلى محمود درويش وسركون بولص والطيّب طالح
العربية المتميزة، فخصَّص ندوة للأديب الجزائري رشيد بوجدرة، وأخرى لآسيا جبار، وثالثة ليوسف زيدان، وندوة لصموئيل شمعون الذي عُرّف عنه كـ«جيمس جويس جديد قادم من الشرق». في المقابل، كانت هناك وقفاتٌ تحية للغائبين: ذكرى محمود درويش التي أشرف عليها الشاعر عادل قرشولي شهدت مشاركة شعراء عرب تطوعوا لقراءة نصوص درويش بالعربية. وذكرى سركون بولص الذي قدمه فاضل العزاوي باعتباره شاعراً كبيراً مُنِع من نجومية مستحقة لأنّه لم يداهن أي تيار سياسي عربي. وأخيراً ذكرى صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال» الروائي السوداني الطيب صالح.
ولأن الشعر مِلحُ الأدب العربي، ضمنت برمجة مهرجان برلين مكاناً مميزاً للإنشاد الشعري: فاضل العزاوي، ونجوم الغانم، ويوسف بزّي، وجمانة حداد، وفاطمة ناعوت، وغسان زقطان، وسليمان توفيق، ومنصف المزغنّي، وهالا محمد، وداليا طه قرأوا أشعارهم على الجمهور.
وإذا كان بعض الأدباء العرب قد تهامسوا بما يشبه الاستنكار لاختيار أديبة هندية لافتتاح دورة تحتفي بالأدب العربي، فإن صاحبة «إله الأشياء الصغيرة» أروندهاتي رُوي، وضعت حداً لكل غمز. كلمتها القوية حول «الضوء الخافت للديموقراطية» بهرت الجميع. أدانت أروندهاتي تنكُّر الأمم الديموقراطية العظمى في زيِّ حُرّاس الأخلاق ومخلّصي الإنسانية، رغم أنهم لا يتورَّعون عن تمويل الأنظمة الديكتاتورية... قبل أن تضيف: «نعلم بأن الحروب في كل من العراق وأفغانستان التي قضت على الآلاف، ودمّرت مدناً بأكملها، شُنَّت باسم الديموقراطية. ونعتبر أيضاً أن البلدان التي تعتبر نفسها ديموقراطية، مسؤولة عن العديد من الاحتلالات العسكرية في العالم. وأشير هنا إلى فلسطين، والعراق، وأفغانستان والكشمير».
إذا كان «مهرجان برلين» قد نجح حيث فشل معرض فرانكفورت، في تقديم الثقافة العربيّة في بعض أنضج تجلياتها وأكثرها جدية وتنوعاً، فالملاحظ أننا لم نسمع كثيراً اللغة الخشبيّة السائدة في ذلك المقلب من العالم. هل بدأت المسافة تتقلص فعلاً بين لغة الأدباء العرب وتفكيرهم؟ شكراً برلين على تسليط الضوء على هذه الحقيقة!