تنسج الروائية السورية في «قَصْقِصْ ورق» (الكوكب ــ الريس) مصائر شخصيّات، يربط بينها نموذج الفتاة الشامية الغاضبة والمتمردة على كل شيء: من الأدباء إلى أموال النفط المسخّرة لشراء أهل الثقافة
حسين السكاف
مثقفة هي! شخصيّتها مبنيّة عقدةً عقدةً، بأصابع الإحباط والانطواء والعزلة. مسكونة بمرارة وقلق ومشاكل عائلية ومجتمعية قاسية، أرهقت روحها منذ الطفولة. لذا، منذ ذلك الوقت، قرّرت الهروب إلى الكتاب الذي كوَّنَ لاحقاً، ملامح شخصيتها القلقة... الصورة هذه، يتلمّسها القارئ في شخصية عهد داغر بطلة «قَصْقِصْ ورق» (الكوكب ــــ الريس) للروائية السورية عبير أسبر.
«قَصْقِصْ وَرَق» هو بالحقيقة، عنوان أغنية لفيروز قُدِّمَت ضمن مسرحية «ناس من ورق» (1972)... «قصقص ورق، على اسم الناس... سميهن بأساميهن... حاكيهن، بيصيروا ناس...». هكذا تقول الأغنية، وهذا ما فعلته أسبر مع شخصياتها. شخصيّات كتبت أسماءهم على الورق وبدأ تحاكيهم، فتمثلوا أمام القارئ بشراً يحمل كل منهم قصته داخل يوميات الراوية...
تنثر أسبر أمام القارئ «قصاقيصها» لتكشف عن شخصيّات تربط بعلاقة مع عهد داغر الفتاة الشامية الغاضبة، بل الحاقدة والمتمردة على كل شيء: والدتها، الشام، الثقافة، الأدباء، وأموال النفط المسخّرة لشراء الثقافة. إلا أنّها لا تختلف عن أغلب الفتيات الحالمات بجرعة ترتشفها من ينبوع الثقافة ورجالها كي تدفعها صوب الأضواء ولو قليلاً. عبر الورقة الأولى حيث تمَثَّل زياد الرحباني بمشروع سينمائي تقدمت به بطلة الرواية إلى المعهد العالي للفنون المسرحية وقوبل بالرفض، تصطاد عهد شخصية ورقتها الثانية نظام عيسى أحد أعضاء اللجنة التي رفضت المشروع: «بدأتُ بنظام عيسى... وضعتُ نفسي في طريقه، تعثرَ بي، انقضضتُ عليه، اصطدتهُ...». هكذا تعترف بنصب شراكها لتصطاد الدكتور المحاضر في مادة الدراما في المعهد العالي للفنون المسرحية الذي صار عشيقها لفترة طويلة وأظهرت اعترافاته شجاعةً يحسد عليها. هو الذي كشف لنا عن ازدواجية عهد في حبها وهوسها وحقدها على تفرد زياد الرحباني وأفكاره ونجاحاته. وهو أيضاً مَن كشف لنا ممارسات عمله: «منذ تسعينيات القرن الماضي، أعمل مستشاراً درامياً (دراماتورج) لدى معظم شركات الإنتاج السورية، وحتى الخليجية التي تستثمر في سوريا... هكذا كنتُ، عندما اخترقتْ عهد حصني، وزلزلت قلاعي، كنت مسؤولاً عن تسطيح الذوق العام، مسؤولاً عن تقديم التفاهة التلفزيونية الضاربة، المتنبئ الأهم بذوق الشارع، بكل البذاءة في الشارع، أغرق الدنيا، وأغرق شهر رمضان، وشاشات رمضان، بحلقات لا تنتهي من الملل». إلا أن عهد التي تعترف بهوسها المرضي بصيد الرجال: «ما يثير جشعي وشهيتي للحركة، للصيد، هم الرجال! الرجال عموماً، وخاصة الأسماء منهم، أحب الضوء، أعشق الشهرة»، لم تكتفِ بورقة عشيقها هذا. بل تنتقل إلى ثلاث أوراق دفعةً واحدةً. إذ تحاول اصطياد ثلاثة روائيين عبر مراسلتهم عبر الإيميل في وقت واحد: «أهمل كل من نجم غازي وإيليا بدران مراسلاتي اللاهبة، وتلميحاتي السخيفة. لاحقتُ مازن النعيمي راضية بقدري المحلي، كسرت على أنفي بصلة ورضيت بالبين...». وحين تنتهي من سرد مغامراتها وألاعيبها مع الثلاثة، تفصح لنا بخبث مدروس أنّ «هذا ما حصل معهم! هؤلاء كانوا صيدي، أتوا إلى دمشق، وذهبتُ إلى الغزو..».
في الربع الأخير من الرواية، تتخلى الراوية عن أوراقها، عن شخصياتها، وعن مسؤوليتها مما روته وتتعمد الإفصاح عن اسمها: «تلفيقاً بتلفيق كانت الحكاية، تلفيق رسم روايات، وأماني، وأحلام يقظة عن زوار لدمشق... خيالات عن زياد الرحباني، مازن النعيمي، نجم غازي، وإيليا بدران! على هامش الكلام أتابع. أسكن الهامش أنا بطلته.. اسمي عبير! ربما.. بكل الأحوال لا أدري مَن أكون الآن، وخاصة عندما تركتُ شخصياتي طليقة، ففلتت مني! تركتُ عهد داغر على فرندا منزلها تستعد للطيران، تستعد للقاء حلمها، تستعد للقاء زياد الرحباني». هكذا تعلن عبير أسبر براءتها مما كتبته، لتبلغ أعلى درجات القسوة والتمرد على لعبتها «الروائية»: «لن أكمل الحكاية، لأني أبرئ نفسي من التاريخ، من الذكرى... بريئة أنا من الحقيقة، وبشاعة الحقيقة... من هنا أعلن براءتي مني، من الهويات ولعناتها... من البشاعة، والخوف، والانتماء لبلدان لا تريدنا، وهويات تجلدنا، تلعننا، ترمي بنا على أرصفة مدنها كالشحاذين. أعلن براءتي، خلاصي من مخيلتي، من تلفيقي، من صدقي، من كذبي... ثم خوفاً منكم وبحثاً عن العفو، أبرئ نفسي من كل ما كتبت!».