الروائيّة المعروفة تخوض تجربة الكتابة المسرحيّة. عملها الجديد الصادر عن «دار النهار» مونولوغ طويل بالعامية، بطلته ممثلة عاشت ازدهار المسرح اللبناني، تحكي سيرة مقنّعة لجيل السبعينيات

حسين بن حمزة
في «فيفا لا ديفا» (دار النهار)، تجرِّب هدى بركات مجالاً جديداً. الروائية التي وضعت اسمها بجدارة بين روائيي الصف الأول، تقترح علينا مسرحية من فصل واحد. مونودراما بالعاميّة اللبنانيّة، لامرأة هي ممثلة في الأساس. هناك امرأة أخرى تؤدي دور الملقِّنة وتجلس داخل الفجوة المخصّصة لها في مقدمة الخشبة، لكنَّ تدخّلاتها في مونولوغ البطلة، تكشف لنا أنَّها ليست سوى الصوت الداخلي للبطلة أو الجانب غير الظاهر منها. النص يبدأ من النهاية ويعود إلى البداية. فلاش باك يتوقّف عند محطّات مفصلية في حياة البطلة ومسيرتها المهنيّة. الممثلة التي عاشت ازدهار المسرح اللبناني تتحسَّر على الواقع الذي انتهت، هي وهو، إليه.
ازدهار المسرح كان مصحوباً بازدهار البلد نفسه. إنّها لحظة «المعجزة اللبنانية» التي تجلّت في الستينيات والسبعينيات، قبل أن تأتي الحرب الأهلية وتحوّل المعجزة إلى شظايا وأشلاء وفُتات... لا تزال تلمع في بال الممثلة، وبال المؤلفة، وبال جيلها كله. «كانت البلد عم تضوي... كانت متل عرس وماشي... كل شي كان معقول... مسموح... وما في حواجز، عشاير، قبايل، طوايف (...) كل المنفيين، المضطهدين، الشعرا كانو يجو لْ عنّا». صاحبة «أهل الهوى» موجودة في نصّها، لا ككاتبة بل مواطنة أيضاً. إنّها تتشارك مع بطلتها في كتابة مرثيّة تراجيدية لزمنٍ مشتهى وضائع. زمن كان يسمح لأبو سليم الطبل وغروتوفسكي بأن يجدا مكاناً فيه.

عن الوطن الصعب الذي لا شفاء منه ولا مهرب
يلحظ القارئ خطوطاً عريضة تجمع هدى بركات مع بطلة مسرحيّتها. الفرق أنّ المؤلفة غادرت البلد إلى فرنسا، بينما بطلتها تستهلّ المسرحية بخيار الهجرة إلى كندا: «عال كندا... شو بها كندا. عشر ملايين كيلو متر مربع أحسن من عشرة آلاف»، وتنهيها بقبول دور صغير في مسلسل مكسيكي مدبلج.
المرأة تقلّب فكرة الهجرة حلّاً للتوقف عن اجترار الذكريات. بين فكرة الهجرة والبقاء، تتماهى مع شخصيات لَعِبتها على المسرح، أو كانت حاضرة في ثقافة ماضيها: أنتيغونا، ميدييا، كورديليا، ماريا كالاس، ساره برنار. تخلط الواقع مع المسرح، الماضي مع الحاضر. توبخها الملقنة بين حين وآخر: «مفكّرة إنُّو الأدوار المسرحية حياة، وإنو المسرح حقيقة... الشخصيات ناس... عم تخلطي الناس بـ بعضن».
الحرب موجودة في خلفية النصّ وفي تناميه وتطوره. الحرب هي سبب كلّ ما يجري. الممثلة التي قضت حياتها على الخشبة تستعيد ماضيها الذهبي وتنبشه أمامنا. كأنّ النص هو فرصتها الأخيرة ممثلةً مسرحية (سابقة). المرأة تهذي تقريباً. الهذيان هنا هو أسلوب ونبرة كتابة. كأنّ بركات تقول لنا إن السلم الذي أعقب الحرب لم يُعِد البلد إلى الصورة التي كان عليها، وأنّ شخصيات مثل بطلتها كانت ضحية الشروط القاسية للراهن. تتحدث البطلة عن وطن «معاق» يستحيل تركه أو الشفاء منه: «حدا بيترك بلد متل هيدا؟ فيه الواحد يترك بلد طبيعي... فيه يتركو ويقطع بـ ها لدني... بيشوف حظو، نصيبو... وبس يشتقلو بيطلّ عليه... بيعمل مشاريع بين هون وهونيك وبيفشِّخ بيناتن... الواحد بيترك بلد طبيعي مش بلد معاق... المعاق دايماً أقوى... ما في ألأم من المعاق... بيكمشك بـ مصارينك... بياخد اللي بدو ياه منك بالـ «شانتاج»... بيبتزّك... بيعبطك». لعلّه البلد نفسه الذي ظهر في الكتاب الذي أصدرته هدى بركات بعنوان «رسائل الغريبة». وهو أيضاً بيروت في روايتها «حارث المياه» التي أُخلي قلبها من أمكنته وسكانه واستُبدل بوسط تجاري ملفَّق. المهاجرة إلى فرنسا حملت معها البلد «المعاق»، بينما بطلة مسرحيتها ظلت بين براثنه. لهذا تستفيق أحياناً من الدور الهستيري الذي أُعطي لها في المسرحية: «لأ، ما بيصير... هيدا البلد بلدي، وهيدي الحرب حربي ونص». هل المسرحية ذريعة لسرد أجزاء من سيرة ثقافيّة مقلوبة أو مقنّعة للمؤلفة؟ سؤال يحظى بوجاهة ممكنة في ظلّ تسرُّب أفكار وتأملات صاحبة «حجر الضحك» إلى مونولوغ بطلتها.