ترك السريان بصماتهم على الحضارة العربيّة ـــ الإسلاميّة، في مجالات مختلفة كالترجمة والطب والفلسفة. ولعبوا دوراً في بناء الدولة، كما يبيّن عيسى مخّول في كتابه الصادر عن «دار بيسان»
علي السقّا
يبقى التأريخ ــــ أو التاريخ في معناه الباطن بحسب ابن خلدون ــــ سبيلاً لدراسة منطقية لأحوال الدول والأمم، عبر الوقوف على الأسباب والعوامل الموضوعية التي تجعل من أمَّة ما في قيامها ومن ثمَّ اندثارها، نتيجةً حتميةً. التأريخ لماضي الهلال الخصيب، والشرق عامة قبل الإسلام وبعده، يبيّن الآثار الضخمة التي خلَّفها علماء غير عرب وغير مسلمين في بناء الحضارة العربية الإسلامية. في كتابه «الحضارة السريانية حضارة عالمية ــــ دور السريان في النهضة العربيّة الأولى: العصر الأموي والعصر العباسي» (دار بيسان)، يحيلنا موسى مخّول على حقبة اعتمد فيها الفاتحون المسلمون على السريان والفرس والأقباط وغيرهم، من أجل إشاعة جوٍّ من الطمأنينة في نفوس شعوب البلدان المفتوحة، وأمام افتقارهم لأشخاص ملمّين بالعلوم والقوانين الحديثة.
هكذا استطاع السريان، كما يذكّر المؤلّف، أن يشغلوا مناصب رفيعة في إدارة أعمال الدولة الإسلامية (الأموية) وذلك بعد عملية تزاوج واختلاط وأسلمة جعلت من كل مَن يتكلم العربية، عربياً. دخل السريان في الدولة الإسلامية سريعاً نظراً إلى ما تمتّع به أطباؤهم وفلاسفتهم وأدباؤهم ومتصوفوهم من معارف وعلوم تشرّبوها من الثقافة اليونانية (يوحنا الدمشقي في الفكر الديني، تياذوق ويوحنا بن ماسرجويه في الطبّ، ويوحنا ابن البطريق في الفلسفة...).

تعود الموشّحات إلى شكل غنائي وضعه برديصان السرياني
لعلّ أعظم الإسهامات السريانية تجلت في حركة الترجمة الواسعة النطاق من اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية وبالعكس. أرسى المترجمون السريان قواعد الترجمة الحديثة، منهم حنين بن إسحاق (الذي ترجم أعمال أرسطو) والجوهري. لم يقتصر عمل هؤلاء على مجرد النقل بل كان «نقلاً للفكر اليوناني كما فهمه السريان وأوّلوه بمضمونه وأسلوبه ومصطلحاته». كما نقل السريان إلى العربية كتب جالينوس الطبية، وإقليدس الرياضية، وبطليموس الجغرافية، وكذلك مؤلفات أبقراط، فضلاً عن إدخال المفاهيم الأفلاطونية الحديثة والتصوف واللاهوت الطبيعي إلى الفلسفة الإسلامية التي لم تكن تؤمن سوى بالوحي.
من جهة أخرى، يبيّن موسى مخّول كيف أثّرت المجادلات اللاهوتية حول القدريّة والحريّة الإنسانية بين الفرق السريانية من جهة، والمسيحية الإسلامية من جهة أخرى، على نشأة فرقة المعتزلة. أمّا مدرسة جنديسابور الفارسية ومدرسة حرّان التي امتزجت فيها البابلية بالهلينية، فقد اشتغلتا بعلوم اللغة والنحو، منذ ما قبل الإسلام، بما يجيز القول بسريانية اللغة العربية قبل الإسلام. يظهر ذلك في الكلمات العربية ذات الجذور السريانية ومنها: إبليس، ملَّة، كاهن، سجود، زبور، ثوّا، قدوس، آمن، بارك...
في العهد العباسي في بغداد، بلغ السريان الحدّ الأقصى من المعرفة وتدرسيها، كما نكتشف مجدّداً في كتاب موسى مخّول. فقد اشتهرت في ذلك الحين أسرة بختيشوع، في مجال الطب، وكانوا يداوون أبدان الخلفاء العباسيين ويديرون سياساتهم، نظراً إلى ما اتصفوا به من حنكة في تصريف الأعمال السياسية. ومن معالم ذلك العصر وجود بيت الحكمة الذي أنشاه الخليفة المأمون وهو أكبر مكتبة عربية وكان يديرها حنين بن إسحاق العبادي، سمحت لكلِّ طالب علم بالاشتغال في المطالعة والتأليف والترجمة، كما شهدت كبرى المناظرات بين أهل الفلسفة واللاهوت من مسلمين ومسيحيين، بحضور الخلفاء. كذلك الأمر بالنسبة إلى الموشحات العربية، أو الـ«مشوحوتو»، إذ يبيّن مخّول أن أصلها يعود إلى «المداريش» وهو نوع من الغناء ألّفه برديصان السرياني وتلون لاحقاً بمزيج من الألحان المشرقية والأندلسية.
رغم التباس العلاقة بين المسلمين والسريان، وانطوائها على بعض أعمال العنف ضدّ الأديرة، إلا أنّ ذلك لم يحجب هوس الشعراء العرب بالأديرة وبرهبانها وحسن ضيافتهم، لا سيّما أبو النوّاس الذي أنشد قال: «يا طيبهم وعتيق الراح تحفتهم/ بكل نوع من الكاسات رحراح/ يسقينها مدمج الخصرين ذو هيف/ أخو المدارع صوف فوق أمساح».
ترى ما الذي كان سيحلُّ بمخترعات الشعوب التي حلَّ فيها الأمويون والعبّاسيون لو تعاملوا معها كما تعامل المسلمون الأوائل؟ لو فعلوا كما فعل عمرو بن العاص مع مكتبة الإسكندرية (على افتراض ثبوت حرقه لها)، أو عمر بن الخطاب مع كتب الفرس، إذ أبرق إلى سعد بن أبي وقاص قائلاً: «اطرحوها في الماء، فإن يكن فيها هدىً فقد هدانا الله بأهدى منهم، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله»؟